كثير من
المهن تواصل عمرها المديد بلا كلل أو ملل، والسر هنا يعود لأولئك الراحلين الذين ورّثوا حب وعشق هذه المهنة لأبناء وأحفاد بقوا على العهد والوفاء ماضين، حتى وإن كانوا في عمر السبعين، كَعَمّنا الفلسطيني، أمين يامين.
في مدينة
نابلس، شمال الضفة الغربية، وفي محله الذي تنطق جدرانه بعبق التاريخ، وعراقة مهنة
الساعاتي، بما تحمله من ساعات تجاوز عمرها عشرات السنين، يجلس الحاج أمين يامين (70 عاما)، على كرسيه القديم، يعيد النبض لساعات توقفت عقاربها عن الحياة.
وبدأت مهنة الساعاتي في الظهور مع بداية انتشار الساعات ببلاد الشام في عشرينيات القرن الماضي، إلا أنها باتت تواجه الاندثار، في زمن تغلغلت فيه التكنولوجيا بأدق تفاصيله، فأضحت مهنة
تصليح الساعات، لا سيما القديمة، لها عناوين قليلة، تجاوزت أعمار أصحابها السبعين والثمانين عاما.
ذلك هو الحال مع الحاج أمين يامين، الذي يمضي يومه بين عشرات الساعات القديمة، وأدوات التصليح، وقطع الغيار الخاصة التي يندر وجودها مع مرور الزمن.
وعلى الرغم من بساطة محله الذي زارته مراسلة وكالة الأناضول، وسط مدينة نابلس، فإنه يعد ملاذا لمحبي الساعات القديمة التي نال منها العمر، وفي يد يامين يكمن سحر إعادتها إلى شبابها.
وفي يديه اللتين تروي تجاعيدهما حكايته مع الزمن، يمسك يامين ساعة تجاوز عمرها الخمسين عاما، يمعن فيها بمنظاره القديم الذي ألصقه بعينه اليمنى، محاولا بأنامله الدخول إلى أحشائها وإعادة الروح لعقاربها.
وبينما كان هو منشغلا بتصليح تلك الساعة، دفعني شغفي لمعرفة ما يحويه هذا المحل من كنوز الماضي، لأبدأ حديثي معه، غير أنه قاطعني بأسئلة فضولية أثارت في نفسه رغبة الحديث عن المهنة التي ورثها عن والده وأجداده، وأضحت مصدر رزقه منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره.
ملتقطا تلك الساعة بيديه، بدأ الحاج يامين يصف شعوره وهو بين أحضان هذا العبق: "المتعة التي أشعر بها في مهنتني أنّي أعيد الحياة للساعات التي عفا عليها الزمن، لتدق عقاربها من جديد معلنة بدء عمر جديد لها، عندما أراها تعمل أشعر بفرحة كبيرة جدا".
وهو يواصل الإمعان بمنظاره القديم، ويفكك قطعا صغيرة ليس من السهل على آخرين في عمره رؤيتها بوضوح أو التعامل معها بدقته المتناهية، يقول: "غالبية الساعات في محلي انقرضت نوعا ما بسبب غزو الساعات الحديثة الرخيصة الثمن للأسواق، لكنّ هناك من يرث الساعات القديمة عن أجداده ويرغب في إصلاحها وتجديدها، وهذا صميم عملي".
يرفع منظاره عن عينه، ويشير بيده على ساعة "بندول" خشبية معلقة على الحائط، قائلا: "هذه الساعة يعود عمرها لثلاثينيات القرن الماضي، هي لزبون من هضبة الجولان (المحتلة)، جاء بها من هناك لأُصلحها، كما أن الناس يقصدون محلي من مختلف مناطق الضفة الغربية، ومدينة القدس".
وبحسب الحاج يامين، فإن من يعملون في مهنته هذه من أبناء مدينته "يُعَدّون على أصابع اليد الواحدة، وقد تجدهم في زقاق البلدة القديمة بنابلس".
ندرة الساعات القديمة، ترافقها ندرة قطع الغيار وأدوات التصليح الخاصة بها، إلا أن يامين يتغلب على هذه الجزئية التي يقوم عليها عمله، من خلال الحفاظ على معداته التي يقارب عمرها سنوات عمره، أو إعادة تصنيع بعض القطع مستعينا بخبرته الطويلة.
يذكر الساعاتي أسماء بعض الأدوات التي يستخدمها، كالمنفاخ الذي يستخدمه لتنظيف الساعة من الداخل، ومفتاح الساعة لفتح الغطاء، والمنظار للتكبير الدقيق، ومكبس الزجاج، وأداة دقيقة لمسك القطع الدقيقة وبردها، وغسالة الساعات التي يُدخل فيها مادة البنزين ومواد كيميائية أخرى لإزالة الأوساخ العالقة.
ينظر حوله باحثا عن ساعة دائرية الشكل تتدلى منها سلسلة فضية، كان الرجال يضعونها في الماضي في جيب خاص على صدورهم، فيجدها بين كومة من الساعات القديمة.
وما إن وضع تلك الساعة بين أيدينا، حتى تسلل لأنفسنا شيء من جمال الزمن الماضي، وبينما كنا ننظر إليها قاطعنا قائلا: "هذه الساعة أحضرها أحد الزبائن وهي معروضة للبيع بمائة دولار أمريكي، قديما كان لا يملكها إلا ميسوري الحال".
الخبرة التي اكتسبها الحاج السبعيني من والده وأجداده، وأضاف عليها من خلال المطالعة والقراءة لكل ما يتعلق بالساعات القديمة حول العالم، نقلها لأحد أبنائه، إلا أن الأخير لم يتخذها مهنة له كوالده، بل فضل العمل في مهنة أخرى، لأن مهنة الأب بحاجة "لطول بال، ودقة، وصبر، وإتقان، ما يجعل مهنة الساعاتي تواجه الانقراض كالساعات التي يعمل يامين على إعادتها للحياة"، بحسب قوله.
ووفق خبرته وتعامله مع الناس، يقول الحاج يامين، إن "هناك من يهوى اقتناء القطع القديمة، كتحف أثرية، خاصة ساعات البندول التي تدق بصوتها المشابه لصوت ساعة بيغ بين، ورناتها تصلح لأن تكون كمنبه أثناء النوم".
وتحتفظ بعض المساجد، والكنائس بساعات البندول القديمة كنوع من التراث.
الساعات القديمة المعلقة على جدران محله، معظمها يابانية وألمانية الصنع، مصنوعة من خشب الزان أو البلوط، وهذه الساعات لا تعتمد على البطاريات، وإنما على التشغيل الميكانيكي، كما يقول يامين.
بعد حديث لا يمل مع من يروون تفاصيل الماضي الجميل، غادر فريق الأناضول محل الساعاتي يامين، الذي يحتضن وفاء لثروة تاريخية قلّ من يقدّرها ويقتنيها في عصر التكنولوجيا الحديثة، كما يقول.