يعود تلاميذ الإعدادي والثانوي اليوم (الاثنين الثاني من مارس) إلى معاهدهم ولا يدخلون الأسبوع المغلق أو أسبوع الامتحانات الخاصة بالثلاثي الثاني. التلاميذ حائرون يتساءلون ما الذي يجري والأسر التونسية مُجيَّشَة بآلة إعلامية شريرة ضد رجال
التعليم الذين وضعوا للحكومة شرط العازب على الثيب.(وهو مثل تونسي يعني الاستحالة) إذ عاد إعلام السلطة إلى دوره القديم الذي احترفه دهرا طويلا. الإشعار بأن البلد مقبل على كارثة مالية وأن كل مطلبية تعتبر خيانة وطنية. التصعيد النقابي متواصل والوزارة تقدم اقتراحات سخيفة ومهينة والناس يحسبون خسائرهم. يبدو كأن السنة الدراسية مهددة أو كأن شيئا ما سيقع غدا ليحل المشاكل كلها بضربة سيف سحري. فهكذا كان في زمن قرارات الرئيس العارف بكل شيء في قصره المنيف.
المطالب والشيطنة
ما يطلبه رجال التعليم معقول في جزء كبير منه لأن وضعهم المهني يتردى ومستوى تأجيريهم ينزل تحت مستوى تأجير مماثليهم في قطاعات أخرى. وينحدرون اجتماعيا تحت الطبقة الوسطى التي طالما صنفوا ضمنها. لكن عملية شيطنة واسعة أطلقت ضد رجال التعليم ويتحول بعضها في لحظة كتابة المقال إلى فوضى وضعت التلاميذ ضد أساتذتهم. ويمكن أن تتطور إلى تخريب مؤسسات. ومفردات الشيطنة هي:
• أولا : توقيت التحرك إذ طرح السؤال هل الظرف مناسب للمطالب المرفوعة؟ فكان اختيار التوقيت مدخلا لشيطنة التحرك المطلبي. إذ وضعت مطالبهم في مواجهة الوضع الاقتصادي الهش فاظهروا بمثابة الخونة للضرورة الوطنية.
• ثانيا: مسألة إصلاح التعليم بالتركيز على زيادة في أجور الأستاتذة لكن المطلوب النظر في قائمة واسعة من الإصلاحات في البنية التحتية وفي وضع البرامج وغير ذلك من المسائل المطروحة.
• ثالثا : وضع امتحانات التلاميذ أداة للتهديد الاحتجاجي وهو ما وفر ذريعة مدمرة للجانب المطلبي. وإن حاول الأساتذة تهوينه بتحويل أسبوع الامتحانات إلى أسبوع تدريس. لكن الإعلام الموالي للحكومة قلب صورة الوضع وحفر أخدودا بين الأساتذة والأسرة والتلميذ التونسي.
في هذا السياق يبدو طَرْحُ السّؤال عن توقيت الإضراب ونوعية المطالب وطريقة مقاطعة الامتحانات سؤالا متأخرا بعض الشيء. لكن لا بد من الإقرار أن تقابل طرفي المعركة النقابي ضد الإعلامي (التابع لجهاز السلطة) كشف لنا صورة من ماض تعيس كنا نعرفه وتناسيناه معتقدين أننا قد قمنا بثورة لتغيير الأساليب والحيل والمشاريع. ونحن نعيش اليوم على وقعه كمن يسمع موسيقى قديمة مزعجة سبق أن صمت أذنيه. بما يسهل الاستنتاج نحن لا نتقدم بعد في اتجاه الديمقراطية.
الإضراب خطة مكشوفة
الإضراب كأسلوب احتجاج سقط في تقديري بالتقادم. إنه أسلوب ضغط كمِّي على المؤسسات بطريقة صارت كلاسيكية وليس فيها إلا الخسارات للجميع. وليس فقط السلطة التي تركع وتستجيب. تاريخ العمل النقابي بدأ بهذا لكن العمل النقابي تطور في تجارب كثيرة ليصبح اشتراكا في إدارة المؤسسة ووضع أهدافها والحرص على تنفيذها وتقاسم نتائج العمل. بما يخلق المزيد من الأرباح ويوسع الأهداف ويحرٍّض على المشاركة. لكن النقابة التونسية لم تتطور. ولا يبدو أنها ستفعل في المدى المنظور. إنها نقابة متخلفة عن أساليب النضال الحديثة. وهي اليوم نكشف عجزها عن التطور بوصولها إلى وضع مصير التلاميذ رهينة تحقيق مطالبها المادية.
لقد تسلطت النقابة بقوة تنظيمها على حكومة الترويكا فأركعتها وحصلت مكاسب كثيرة لكنها وهي تحصل المكاسب القطاعية كانت تُخْسِر البلد وفي مجال نظرها إسقاط الحكومة فقط لكنها الآن تكتشف النتيجة السلبية لما أفرطت في طلبه سابقا وحصلت عليه بروح انتصارية قصيرة النظر.
قصر النظر ذاك وضع النقابة (الاتحاد/الأصل) والنقابة العامة للتعليم (الفرع) في مواجهة المجتمع(الأسرة) وفي مواجهة ماضيها (تسييس العمل النقابي) وفي مواجهة مستقبلها(احتمالات انكسارها النهائي). فهي استنزفت الماضي (المال المتاح والشرف النضالي) فلم تجد رصيدا للحاضر بما يقطع أنفاسها في المستقبل. ولا مخرج لها من الزاروب الذي أدخلت فيها نفسها إلا بتغيير العمل النقابي تغييرا جذريا. ينهي التصور الكلاسيكي للنقابة ضد الدولة. وهذا الأمر يقتضي القطع الجذري مع عقلية توظيف النقابة سياسيا لمصلحة حزبية مهما كانت. إن النقابة التي تتورط اليوم هي نفسها التي استنزفت الدولة في سنوات الحكومات الانتقالية. وقطعت وسائل النقل العام عن الناس في ليل الشتاء ووصلت بها الغطرسة إلى قطع الغذاء عن المرضى في المشافى من أجل إسقاط وزير الصحة.
هذا لا ينفي بالمرة أن مطالب القطاع التعليمي مشروعة وأنهم محتاجون إلى زيادة رواتب لكن الإضراب الحالي فيه من السياسي أكثر مما فيه من المطلبية ويتم بنفس العقلية المطلبية الكلاسيكية التي تمزج السياسي بالنقابي. وكان يمكن طرح برنامج نضالي مختلف يقوم على تطوير المدرسة ماديا وبرامجيا ويكون ضمن ذلك تحسين وضع المهنة. تهربت النقابة من الإصلاح الحقيقي ولم تقدم فيه إلا ما يرفع عنها العتب لتغطية المطلب المادي التعجيزي.
عودة إعلام الحكومة ضد النقابة
الحملة على النقابة في وسائل إعلام بن علي عادت وهذه السيرة نعرفها عندما كان أي قطاع نقابي يتحرك تحت الدكتاتورية كان الإعلام يشن حملة تشويه وتخوين في القطاع بما يؤلب عليه الشارع و يضع النقابيين في وضع دفاعي فيخسر من الجانبين مطلبه وسمعته وهو ما يجري الآن لقد اصطف الإعلام ضد إضراب رجال التعليم وشوهه على أنه مطلب أناني لأن الدولة موشكة على الإفلاس. إنها استعادة حرفية لنظام الخطاب الذي كان ساد تحت بن علي كل من ليس قابلا بما تفرضه الحكومة يصبح خائنا للوطن وتحركه نوازع خارجية ويصطاد في الماء العكر.
نفس هذا الإعلام وقف مع كل تحركات النقابة في المرحلة الانتقالية خاصة 2012 و2013 بما في ذلك إضرابات قطع الغذاء على المرضى بالمشافي. وإضرابات منع تصدير الفوسفات من مراكز إنتاجه. اللعبة القديمة تنكشف بكل تفاصيلها وهنا يكون إضراب التعليم أو ثورة
الطباشير بمثابة الضوء الكاشف التي تسلط على المنظومة القديمة وفضحها وتعريتها. تحجج الوزير بنقص الاعتماد وسُلِّطَ الإعلام على النقابة وسُلِّطَ التلاميذ بتحريض إعلامي فاسد على أساتذتهم. والعملية التعليمية الآن في مهب الريح. لكن فضيحة إعلام التبرير أكملت تعرية المشهد.
أين يذهب الإضراب
ليس لدي إجابة لأني لا أعلم الغيب ولا أعلم كواليس الحكومة والمفاوضات السرية التي نعرف انها تجري حثيثة في مقهى ما. ولكن الأكيد أنه رغم مشروعية مطالب الأستاذة فإن الشك قائم دوما وكما عودنا النقابيون فإن الإضراب يخفي أجندة سياسية وستحل سياسيا وما الغلاف المطلبي إلا ذريعة.
سيتم حل الإضراب سياسيا في مكان آخر ومن أجل هذا يتم التصعيد من المركزية النقابية لا معجزة ولكن الحل سياسي وهو موجود على طاولة سياسية. سيتدخل الرئيس ليعيد أطفالنا بعطفه الكريم إلى المدرسة وسيقبض المحرضون أجرا في مكان ما وسيعود فقراء التعليم إلى المهنة مشفقين على تلاميذهم وسيظل التعليم في حالة انهيار مادي وأخلاقي بلا قاع.
أعتقد أن إضراب مارس 2015 قد أجهز على المدرسة التونسية.واعتقد أنه دق مسمارا غليظا في نعش النقابة.