يبدو أن المانيا الحالية بقيادة رئيسة الوزراء أنجيلا
ميركل تجد نفسها اليوم، وبعد تحوُّل الاتحاد الأوروبي هيكلاً جامعاً جدِّياً ذا "مؤسسات تشريعية وتنفيذية"، وبعد توحيد عملات دوله، غير قادرة على الاستمرار في دورها القديم أو وضعها القديم وخصوصاً بعد استعادة وحدتها. وهو كان اعادة البناء في الداخل الذي جعلها صاحبة الاقتصاد الأكبر في
أوروبا، والسعي الى التأثير في محيطها الأوروبي والعالم بواسطة الاقتصاد بعيداً من الأدوار السياسية الكبيرة والعسكرية.
هذا ما يجمع عليه محلِّلون جدّيون في مركز أبحاث أميركي عريق. وقد عبّروا عن موقفهم بالاشارة الى أن اجتماع ميركل ومعها رئيس فرنسا فرانسوا هولاند مع رئيس روسيا فلاديمير بوتين في السادس من الشهر الجاري ثم مع رئيس أميركا باراك أوباما في التاسع منه قد كان الهدف منهما مناقشة تطورات الوضع العسكري والسياسي المتدهور في أوكرانيا، والأوضاع التي استجدّت في
اليونان بعد فوز الحزب اليساري "سيريزا" بزعامة أليكسي تسيبراس في الانتخابات النيابية، وأبرزها اعتزامه بعد وصوله الى الحكم التخلِّي عن برنامج التقشُّف والاصلاحات الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على بلاده التي تعاني اقتصادياً في مقابل قروض ومساعدات بلغت حتى الآن حوالى 215 مليار دولار أميركي.
ثم خلصوا الى استنتاج يفيد بعدم وجود رابط بين الأوضاع المالية في اليونان وأوكرانيا في العقل الأميركي، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن أوضاع الدولتين مترابطة في العقل الألماني بسبب كونها مؤشرات على الدور الجديد لألمانيا في أوروبا وربما العالم. وهو أمر لا تشعر بالارتياح حياله. فميركل وصلت الى الحكم في بلادها التي تنعم بالسلام عام 2005 في اتحاد أوروبي "متّحد" فعلاً. فوضعت كل مطالب ألمانيا وراءها وانخرطت في أوروبا من أجل تحقيق هدفين. الأول، زيادة ازدهارها. والثاني، التحرُّر من الأعباء الجيوبوليتيكية التي قادتها في السابق في اتجاهات مظلمة. وما ساعدها في ذلك "خمود" أو "همود" الخوف الأوروبي من بلادها، وانهيار الاتحاد السوفياتي وانشغال قادة روسيا الجديدة في اشفائها من مضاعفاته. وأمّن لها ذلك الراحة والأمان والعلاقات الودية مع المجتمع الدولي.
طبعاً، يستدرك المحلّلون أنفسهم، يختلف العالم الذي تواجهه ميركل اليوم عن الذي وجدته يوم وصلت الى الحكم. فالاتحاد الأوروبي يعيش أزمة عميقة يُحمِّل كثيرون ألمانيا مسؤوليتها جراء سياسة التصدير "العدوانية" التي انتهجتها ومطالبتها المتشدِّدة بالتقشُّف في عدد من دوله. كما اتهمها كثيرون باستعمال الأورو (العملة الموحّدة) لخدمة مصالحها، وبالدفع نحو صوغ سياسة عامة له (الاتحاد الأوروبي) بهدف حماية شركاتها الكبرى ومصانعها... وقد تسبّب ذلك باختفاء صورة المانيا الجديدة الوديعة وغير الخطِرة، سواء كان ذلك صحيحاً كلياً أو جزئياً أو غير صحيح. كما أعاد صورة ألمانيا القديمة ومعها، وان على نطاق غير واسع حتى الآن، الخوف منها. فضلاً عن أن السلام الذي تاقت اليه صار في خطر، وخصوصاً بعد حوادث أوكرانيا التي أخافت روسيا من الغرب فاحتلت شبه جزيرة القرم. واثار ذلك خوف أميركا من عودة نزعة الهيمنة الروسية (السوفياتية)، ودفعها الى البحث في موضوع تخزين أسلحة في دول البلطيق، كما في بولونيا ورومانيا وبلغاريا، وفي موضوع تزويد حكومة أوكرانيا أسلحة حديثة وفتّاكة.
ذلك كله، يشدِّد المحللون أنفسهم، وضع ألمانيا ميركل في حرج. فاستراتيجيتها كانت تجنُّب الدور القيادي السياسي أو العسكري في أوروبا. وما تشهده الأخيرة حالياً وخصوصاً داخل "اتحادها" يجعل التمسُّك بها مستحيلاً. فالأزمة المالية الأوروبية التي مضى على نشوبها سبع سنوات لم تعد مشكلة اقتصادية بل صارت سياسية. وأزمة أوكرانيا تضع ألمانيا في موقف غير مريح، اذ تدفعها الى ممارسة دور قيادي هدفه منع مشكلة سياسية من التحوُّل مشكلة عسكرية. فهي تحاول المحافظة على الاتحاد الأوروبي من جهة، وتلافي أن يقع عليها عبء ذلك، وهو ثقيل جداً. فالألمان لم يتوقعوا ردود فعل روسيا وأميركا على أزمة أوكرانيا، ولا يريدون في الوقت نفسه الاشتراك في ردّ فعل عسكري على روسيا، والتخلِّي عن دعم الحكومة الأوكرانية في وقت واحد. وبدا من ذلك، في رأي هؤلاء المحلِّلين، أن هناك تناقضاً في استراتيجية ألمانيا. فحاكمتها ميركل لا تريد ظهور بلادها جازِمة ومُهدِّدة. لكنها بمواقفها تمارس الأمرين. ففي أوروبا دور ميركل قائد وعدواني. وفي أوكرانيا دورها قائد وتصالُحي.
(نقلا عن صحيفة النهار اللبنانية)