كتاب عربي 21

العمال بين اليسار و"الإسلام السياسي"

1300x600
1300x600
المقالات الثلاثة السابقة قامت بعرض سريع لتاريخ الحركات العمالية في مصر منذ الدولة العثمانية حتى الآن، والسرد التاريخي وتحليله هي إحدى وسائل محاولة الوصول إلى الشكل الأمثل للتنظيمات العمالية التي تستطيع الحفاظ على حقوق تلك الكتلة الضخمة في المجتمع، سواء الحقوق المالية والمشاركة في الربح الناتج عن القيمة المضافة أو حق كل عامل في الوصول إلى مستوي فني راق يحقق الفائدة له ولمجتمعه.

تاريخ التنظيمات العمالية في مصر (1)
تاريخ التنظيمات العمالية في مصر (2)
تاريخ التنظيمات العمالية (3)

ربما إن اتفقنا على هذه الأهداف للتنظيمات العمالية نستطيع وضع تصور متكامل لبنية ونظم التنظيمات العمالية، ولكن علينا أن ننتبه أن العمال بتنظيماتهم هو جزء من المجتمع والتنظيمات العمالية تمتلك جزءا من السلطة كغيرها من منظمات المجتمع، وعلينا أيضا أن نفرق بين السلطة وبين العمل السياسي، فالسلطة في تعريفات متعددة تدور حول القدرة على إحداث تغيير- هذا في التعريفات الغربية-  والسلطة متوغلة في كل إجراءات ونظم المجتمع.

أما العمل السياسي فهو عمل تنافسي بين تيارات وفصائل مختلفة وهدف أي فصيل منها هو الوصول للسلطة لتطبيق أفكاره الأيديولوجية والفكرية على المجتمع، لذا فالحديث عن أفكار التيارات السياسية المختلفة ورؤيتها في ملفات العمال هو إحدى أهم القواعد التي ينبغي دراستها جيدا للتعرف على بنية التفكير في كل تيار سياسي ومدى توافقه مع الأهداف التي يسعى إليها قطاع العمال وتنظيماتهم وما هو مدى قدرة كل تيار على منح جزء من السلطة إلى القطاع العمالي طبقا لرؤيته عن السلطة والمجتمع.

ومن هذا يتضح أن التنظيمات العمالية لا تمارس عملا سياسيا بمعنى محاولة الوصول إلى السلطة عن طريق تنظيمات سياسية "الأحزاب"، إنما تمارس عملا سلطويا كجزء من المجتمع صاحب السلطة ضمن إطار عام تبعا للأيديولوجيا الموجودة في رأس السلطة الناتجة عن آليات العمل السياسي.

وقبل الوصول إلى الشكل المرجو للتنظيمات العمالية سنقارن بين أهم تيارين في المجتمع المصري المهتمين بقطاع العمال مع الفارق الكبير حتى الآن في علاقة التيارين بالعمال، فبدون شك كان اليسار هو المتزعم للحركة العمالية قبل السقوط المدوي له في العقود الأخيرة بعد سيطرة الدولة على منابره.

اليسار -مع اختلاف أطيافه- يرى المجتمع في صراع طبقي ويرى التاريخ ويفسره طبقا لهذا المفهوم، وترى الماركسية -بشكل مبسط- أن المجتمع ينقسم إلى طبقتين هما طبقة أصحاب رؤوس المال "البرجوازية" وطبقة العمال "البروليتاريا"، وكل طبقة تحاول بناء المجتمع وبناء السلطة وأدواتها بما يحافظ على مصالحها حتى إن لم تدرك ذلك.

ونلاحظ أن الفكر الماركسي يسعى إلى إعادة تنظيم المجتمع داخل بنية الدولة الحديثة وداخل إطار المفهوم الغربي للدولة، حيث البناء الهرمي وعدم وجود قيم متجاوزة حاكمة للمجتمع، وأن المجتمع ينظم نفسه ذاتيا.

وكان ظهور الفكر الماركسي مرتبطا بأكبر فترات التاريخ استغلالا لقوة العمل، سواء بالعبودية المباشرة "الرقيق" أو العبودية غير مباشرة "الاستغلال غير المسبوق للعمال" وأحد محاور النظرية هو ضرورة وصول العمال "البروليتاريا" إلى السلطة لإعادة بناء علاقات الإنتاج. وبالتالي يحتل العمال أحد أهم ركائز الفكر اليساري، حيث إنهم القوة التي تستطيع تطبيق الفكرة.
 
لقد تأثر الفكر الماركسي بالمقدمات المجتمعية الغربية، حيث طبيعة المجتمع الغربي منذ ظهور المسيحية الغربية وحتى قبلها طبيعة هرمية بفواصل صلبة بين طبقاتها " النبلاء – الكنيسة – الجنود – العامة"، فحاصر هذا التنظيم مقدمات الفكر الماركسي، وتحرك من خلاله للوصول إلى المجتمع الشيوعي، حيث ينتهي شكل الدولة الحديثة ذات التنظيم الهرمي الطبقي التي تتركز السلطة في رأسه، ما يجعل الثروة بالتبعية تتحرك إلى رأس هرم السلطة، وينتهي ذلك الفاصل الصلب بين الطبقات الاجتماعية وتصبح السلطة يمتلكها كل المجتمع. لذا حاولت الماركسية هدم النظام الطبقي الغربي الرأسمالي من داخل بنية النظام ذاته عن طريق وصول طبقة العمال إلى السلطة.

وقد قام اليسار المصري وفق هذا التصور حتى ثمانينيات القرن الماضي بإدارة الحراك العمالي في مصر لمحاولة الوصول إلى ذلك، واستطاع بناء قواعد وتنظيمات عمالية، إلا أن السلطة المركزية استطاعت السيطرة عليها كما ذكر سابقا، وسقط اليسار في تركيبة السلطة المصرية على مدي ثلاثين عاما، وانتهي دوره إلى حد كبير باستثناء بعض الحركات اليسارية الثورية التي لا زالت تؤمن بالطريق الماركسي للوصول إلى تفتيت السلطة المركزية وإعادة توزيع الثروة.

ويتضح أن هدف التنظيمات العمالية في الفكر الماركسي هو الوصول إلى رأس السلطة بدلا من الطبقة البرجوازية داخل بنية النظام ذاتها، فهو إبدال طبقة محل طبقة داخل النموذج ذاته، وذلك وصولا إلى تفتيت مفهوم الدولة الحديثة في المجتمع الشيوعي؛ ولهذا أصبحت التنظيمات العمالية تمارس عملا سياسيا إضافة إلى العمل النقابي، وهذا خلط بين ما هو سياسي وما هو سلطوي. وأرى أن محاولة تجاوز الدولة الحديثة هي هدف الكثير من الحركات الثورية حتى إن لم تدرك ذلك، ولكن يبدو أن طريقة فعل ذلك من داخل بنية النظام الغربي للدولة الحديثة ربما أثبت التاريخ أنها غير ناجحة.

"الإسلام السياسي" -مع التحفظ على المصطلح، ولكننا جميعا لا زلنا في براثن المصطلحات الغربية التي فرضت علينا- يعاني من إشكالية معقدة في التعامل مع العمال ومع أي ملف أو مفهوم تم إنتاجه في منظومة الحضارة الغربية كالمواطنة وغيرها، وترجع تلك الإشكالية إلى صعوبة دمج فكرة السلطة والحكم في الفكر الإسلامي مع نموذج الدولة الغربية الحديثة، وبالتالي صعوبة نقل أفكار ومصطلحات نشأت في بيئة فكرية مختلفة، وعلينا أن نفرق بين الأصول الفكرية والمفاهيم من جهة، والإجراءات من جهة أخرى، فالإجراءات كشكل المحكمة وآليات الانتخاب وغيرها يمكن قبولها داخل الفكر الإسلامي، أما المفاهيم والأصول الفكرية فنجد صعوبة كبيرة في ذلك.

إن بنية السلطة في الفكر الإسلامي تمتلك أفكارا متجاوزة، وهذه نقطة اختلاف رئيسية مع الفكر الغربي، كما أن النموذج الهرمي الطبقي الغربي يتعارض مع النموذج المجتمعي الأفقي الإسلامي، كما أن الخلاف بين النموذج النهائي الماركسي "المجتمع الشيوعي الأفقي" من جهة والنموذج الإسلامي الأفقي أيضا هو خلاف جذري، ليس في طريقة الوصول فقط، ولكن في شكل وطبيعة المجتمع النهائي.

والسلطة في الفكر الإسلامي لا تتركز في رأس المجتمع، حيث لا مركزية العمل السلطوي كان الصفة الغالبة في المجتمع الإسلامي على مدى اثني عشر قرنا، وكما رأينا في المقالات السابقة، كان نظام الطوائف العمالية هو النظام السائد ويتمتع بسلطة مستقلة لإدارة ملف العمال أدت إلى ارتفاع كفاءة العمل والعمال ولتوزيع عادل للثروة داخل القطاع العمالي، صحيح لم يكن نموذج الثورة الصناعية المرتبط بتراكم رأس المال قد ظهر بعد، ولكن تطوير هذا النظام كان ممكنا داخل نطاق فكرة السلطة بالمجتمع الإسلامي، ولكن قام محمد علي ببناء المجتمع على غرار النموذج الغربي، ودمر كافة الكيانات الاجتماعية الموجودة لصالح النموذج الجديد.

إن وجود إطار حاكم متجاوز في الفكر الإسلامي يؤمن بالعدالة كقيمة حاكمة، ويؤمن بنصوص قطعية تحدد شكل وبناء المجتمع، ويؤمن بأن السلطة للشعب، وأن الموجود برأس السلطة منوط بإدارتها وليس امتلاكها، ويؤمن أن التراتب الاجتماعي –وليس الطبقات الاجتماعية– جزء حتمي في البناء المجتمعي، وهو لا ينتج عنه صراع طبقي كالناتج عن الفواصل الصلبة الموجودة بالنموذج الغربي عكس النموذج اليساري الذي يتبني الصراع الطبقي لتفسير التاريخ ويتحرك في مجال هذا البناء لتفتيته.

وسيظل تيار الإسلام السياسي حائرا في إدارة ملف العمال إذا أصر على التحرك داخل نموذج الدولة الحديثة التي تبتلعه، ولن يستطيع الفكاك منها، وعليه أن يعيد فكرته عن السلطة داخل النموذج الإسلامي وبناء الكيانات والتنظيمات المجتمعية داخل نموذجه الخاص، حتى يكون متسقا مع ذاته، وملف العمال لا ينفصل عن تلك الأفكار الخاصة ببناء نموذج للسلطة داخل المجتمع الإسلامي معتمدا على المقدمات السابقة، ونناقش في المقال القادم الخاص بالعمال بمشيئة الله نموذج التنظيمات العمالية المقترح داخل بنية السلطة في المجتمع الإسلامي.    
التعليقات (0)