أعلنت الحكومة أخيرا. وتظاهر الجميع بالمفاجأة كأنه كان يتوقع معجزة. لا معجزة في المشهد.
فرنسا تستعيد مستعمرتها القديمة بدون حاملة الطائرات شارل
ديغول التي تقترب من سواحل اليمن بحثا عن آثار الشاعر رابمو ربما أو سعيا إلى تأمين خطوط الإمداد بالنفط قبل أن يصير المضيقان تحت سيطرة الحرس الثوري الإيراني. لكن الوضع التونسي في الجيب. وهي عبارة يقولها من يطمئن إلى ما بين يديه فلا يضار فيه من أحد.
التواضع للحقيقة
هذه هي المعجزة الوحيدة الممكنة: إعادة تقدير ما جرى لعل شيئا بعد ذلك يبنى على قراءة سليمة للوضع. لكن يظل التحليل بعد الواقعة نبوءة مزيفة تملأ فراغات الوقت والتحليل الكسول.
بعد الخطأ نقول كان علينا أن لا نفعل، لكن في حماس اللّحظة الثورية الرومانسية تُهْنا عن دور فرنسا في تونس. حسبنا انتصارا دائما ما كان من سقوط بن علي رغم العروض الفرنسية بمساعدته حتى اللحظة الأخيرة وتمتعنا بإقالة وزيرة الخارجية الفرنسية التي عرضت عليه المساعدة بالرجال والعتاد ليظل في مكانه يؤدي لها الخدمات التي تنتظر. بالغنا في الفرح وهو مرض ثوري طفولي. وجاءت حكومة 2015 لتعيدنا إلى الصواب. فرنسا غيرت بيادقها فقط والبلد ليس ملكنا بعد مهما بالغنا في الوهم. والمجال الآن مفتوح لأمرين إما فتح باب العزاء وديوان الرثاء، أو استئناف العمل السياسي المعارض على قاعدة ترسيخ الاستقلال أولا قبل الديمقراطية السياسية الشكلية.
الضغوط الخارجية هل هي حقيقة؟
لا ينكر ذلك عاقل لكن ما الصيغة التي قدمت لنا وسلمنا بها في فهم هذه الضغوط؟ لقد قيل إن الغرب وفرنسا بالتحديد قبلت أخيرا التعامل مع الإسلام السياسي في مستعمراتها القديمة وأنها مستعدة لمد يد المساعدة الاقتصادية والسياسية لحكومات يشارك فيها الإسلاميون. بل طلب من الإسلاميين الأقوياء التواضع قليلا لتشريك أجزاء من النظام القديم في الحكم لضمان نوع من الاستقرار والانتقال السلمي نحو الديمقراطية وفرح الإسلاميون بذلك وهم يرون شيخهم يطير إلى باريس متى شاء ويحاضر في جامعتها وهي التي كانت سماؤها محرمة عليه وأرضها.
بلع الإسلاميون الطعم وتعاملوا مع الأمر كما لو أنه حقيقة قائمة وأبدية لقد صاروا أخيرا جزءا من الوضع الدولي في التحليل وفي الممارسة. وقد كان هدفهم الكبير الاندماج في النخبة المحلية كمدخل للاندماج في العالم. هدأت مخاوفهم من الإقصاء الداخلي والخارجي. وفاوضوا كشركاء متواضعين على تأليف الحكومة وإسنادها بعد أن ألزمتهم الانتخابات بالتواضع.وقد كانوا يعتقدون أنهم من القوة بحيث لا يراهنون على الرئاسية لفسح المجال للشركاء من كل اتجاه.
صبيحة اليوم الأول من الحكومة يفيق الإسلاميون على وضع قريب من وضع الانقلاب العسكري على انتخابات الجزائر التي انتصرت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. فرنسا لا تتعامل مع الإسلاميين. ولا تقبلهم شريكا مهما تواضعوا وبالتالي فان بيادقها المحلية يجب أن تحظى بكل الدعم السياسي والمالي (إن وجد لدى بلدان تعيش بدورها أزماتها الخاصة في سياق تحولات دولية كاسرة لمراكز القوة الاقتصادية الغربية التقليدية) ليستمر الوضع على ما هو عليه وقت بن علي وإن اختفى بشخصه فإن نظام الاستئصال يمكنه أن يستمر بوجوه وأيد أخرى ولنفس الغاية.
سَوَّق الإسلاميون في داخلهم وللمؤلفة قلوبهم من حولهم وللآملين فيهم خيرا وخاصة لمن يرى أن البلد لا يحتمل حربا استئصالية أخرى لمدة ربع قرن آخر. أن الضغوط الخارجية هي في اتجاه تشريكهم وليس في اتجاه إقصائهم و أن السفارات متعاطفة مع خطابهم المتواضع و أنه أخيرا صار يمكن للعالم أن يقبل بتعايش الإسلام والديمقراطية. وأن النموذج التونسي سيصير قاعدة كونية تحتذى في حل مشاكل العالم الإسلامي ومقاومة المد الإسلامي المتطرف. وصدق الكثير هذا وأول المصدقين هم الإسلاميون. لكن حكومة 2015 أعادت بوصلة الاستئصال إلى شمالها في باريس.
وتبين أن تقسيم النفوذ بين القوى الكبرى لم يسر مع ما يسمى بأطروحة التوافق التي يروج لها الأمريكيون خاصة بل انتصرت أطروحة الإقصاء التي تسير عليها باريس. وترك البلد لمالكه القديم يفعل به ما يشاء. وننتظر بدء حرب جديدة في ربيع قاحل يمر سحابه الآن فوق الرؤوس ولا يمطر.
هل يمكن للإسلاميين العودة إلى المعارضة مرة أخرى؟
لو كان الأمر يتعلق بتنافس سياسي في ديمقراطية مستقرة لكن الوضع عاديا فمن لا يكون في الحكومة يلتحق بالمعارضة. لكن أن تطمع في الحكم وتجد نفسك مقصيا. فأنت شاركت مع من لا يقبل الشركة ولا يحتاجها لأنه محمي بقوة تغنيه عن قوتك. فهي حالة انبتات كاملة عن الشارع وعن خياراته.
إن العودة إلى الشارع بعد فشل في الاندماج تجعل الشارع لا يثق بك ولا يصدقك. بأي خطاب ستكون في المعارضة؟ أي أطروحة ستتبنى للمشاركة من موقع المعارض الآن وقد اطردت من المشاركة ورفض التوافق الذي دعوت له؟.
أفاقت النهضة مع حكومة الصيد على وضعها سنة 1991. أنت هنا ولكنا لا نراك ولا نقدرك وندفعك إلى التمرد الأخرق المفضي إلى ما نريد من الاستئصال المنهجي. لماذا قد تصعّد في الشارع؟ ما هي مطالبك؟ التنمية؟ الحريات ؟ الدستور؟ عناوين مشروعة نعم ولكنك كنت مستعدا للتخلي عنها بالمشاركة في حكم تعرف أنه لا يخطط للتنمية ولا يحافظ على الحريات ولا يحترم الدستور. بدليل رفضه للتوافق الوطني الذي إستنزفك به قبل أن يرتد عنه.
ضرورة القراءة الذكية للمرحلة
إن القراءة الخاطئة للوضع والمرحلة لها ثمنها السياسي والقراءة الذكية تؤتي أكلها ولو بعد حين. اللحظة حرجة جدا بالنسبة لتيار الإسلام السياسي عامة ولحزب النهضة بالخصوص في تونس. القوى الدولية ليست معه والقوى الداخلية مستعدة لقبض ثمن رقبته في أية سوق خاصة الفرنسية المعادية لكل تحول عن تيار التحديث الذي زرعت شجرته في تونس (كما كان الأمر سنة 1991). لكن إحدى عناصر القراءة الذكية هي:
أولا الانتباه إلى الصعوبات الجمة التي ستلاقيها حكومة الصيد في الاستجابة للمطالب الاجتماعية المؤجلة. والتي زادتها المزايدات النقابية على حكومة الترويكا تعقيدا بما استنزفته من زيادات غير معقولة في الإنفاق العمومي. بما يعني أن الشارع مهما غلب على أمره لن يقبل المزيد من التفقير والتهميش.
ثانيا: الوضع الدولي ليس مستقرا كله ضد الإسلاميين وليس لديه موقف نهائي وقطعي من هذا التيار ولأن الخريطة متحركة والمواقف ليست ثابتة فإنه من الذكاء أن يؤخذ بعين الاعتبار نسق هذه الحركة وتقلبات المواقف. والانتباه خاصة إلى أن فرنسا في الوضع الدولي ليست في حالة المستعمر القديم وأن خرابا داخليا يسري في قدراتها الاستعمارية الموهومة وهي ليست في حال قوة تسمح لها بفرض شروطها على هواها في مستعمراتها القديمة. الغول القديم لم يعد يخيف إلا نفسه، ولا يوهم إلا العجزة بالاعتماد عليه.