الآثار الاقتصادية والاجتماعية للاقتتال بدأت تظهر بقوة وتفعل فعلها في التأثير على المنظومة السياسية، فهي بادية في المناطق الغربية ويعبر عنه اتجاه المؤتمر الوطني والحكومة هناك لاعتماد "سياسة التقشف"، لكن الآثار تظهر أكبر في المناطق شرق البلاد ويعود ذلك إلى عنف المعارك وإخفاق الكرامة في الحسم، إذ إن طول أمد الصراع وضراوته يدفع إلى مزيد من الضغوط الاقتصادية التي تعجز حكومة "عبدالله الثني" عن مجابهتها، وهو ما عبر عنه بصراحة العديد من قيادات الكرامة وحدا بهم للضغط لإقالة رئيس الحكومة.
ما كان منتظراً ومرتقباً هو السيناريو الذي تعلق به معظم سكان المناطق الشرقية وفي المقدمة سكان مدينة بنغازي، وهو أن ينجح اللواء حفتر في إعادة تشكيل الجيش ويقوم بالقضاء على مظاهر التسلح كافة، ويقضي على المجموعات "الإرهابية" التي تتهم بالتورط في اغتيال مئات الضباط وغيرهم من الشخصيات البارزة، كما وعد ليعود الاستقرار والأمن والأمان للبلاد.
وكان في مقدمة المؤيدين كثير من الأعيان والنشطاء السياسيين والكتاب والصحفيين، وسبقهم في ذلك العديد من ضباط الجيش، وحتى بعض الثوار الذي قاتلوا كتائب القذافي في بنغازي والبريقة وسرت، دون أن يطرح سؤال: هي عملية الكرامة وفق المعطيات والحيثيات الراهنة ووفق المسار الذي فرضه اللواء حفتر، ستحقق الاستقرار وتقضي على مظاهر الإرهاب والقتل، وتعيد للجيش هيبته ومكانته وتمهد الطريق لبناء الدولة؟ أم أن هناك احتمالاً كبيراً أن تقود الكرامة البلاد أو جزءاً منها إلى وضع صعب ومعقد، يدفع بالمطلق إلى مزيد من الدمار العمراني والتمزيق الاجتماعي والانهيار الاقتصادي، وهو السيناريو الذي رجحته في مقال لي نشر بتاريخ 19 مايو 2014، أي بعد ثلاثة أيام من انطلاق العملية العسكرية للكرامة.
ما يثير استغرابي هو استمرار صمت القطاع الأكبر من الشخصيات المؤثرة ممن أشرت إليهم وعجزهم عن التقدم لمحاولة وقف هذا النزيف، الذي لا يمكن أن يوصل إلى أي هدف متعلق بالاستقرار او فرض الأمن أو عودة الحياة إلى طبيعتها، بل أكاد أجزم بأن الوضع الأن يمهد لفرض معادلة سياسية وأمنية لا يمكن أن تعود بسببها بنغازي إلى ما قبل 15 أكتوبر أو 16 مايوم 2014.
الحرب الدائرة فتحت ولا تزال تفتح أبواباً لتكريس أوضاع أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية ستكون أكبر عائق للاستقرار، حتى مع انتصار الكرامة وسيطرتها على بنغازي، مع يقيني أن الانتصار لا يمكن أن يتحقق في المدى المنظور.
كل هذا لا يُأبه له، ولا يُطرح على طاولة البحث ممن يستطيعون التحرك لوقف هذا النزف وهذا الدمار.
لقد كان من أبرز أسباب تحييد العقلاء من أن يجتمعوا على كلمة توقف الحرب الدائرة وآثارها المدمرة، لصدام الذي أخد طابعاً جهوياً أدى إلى تقسيم مدينة بنغازي وربط الخيانة والعمالة ...إلخ بالانتماء الاجتماعي. أما العامل الآخر فهو فزاعة الإرهاب التي بررت لمعظم سكان المدينة حرب الكرامة.
كان من المنطقي أن يتم التوافق على مفهوم الإرهاب وإسقاطاته على الحالة الليبية وبالذات في بنغازي، وتحديد - بشكل قانوني وعبر أدوات وإجراءات قانونية - من هم الإرهابيون في بنغازي من خلال الحوار وتعبئة كافة جهود الخيرين من الشرائح كافةبهذا الاتجاه، لتكون سبل مجابهته صحيحة ومتفق عليها، حتى لو كان السبيل هو استخدم القوة ضد من ثبت أنهم إرهابيون. وكان من الواجب اصطفاف سكان المدينة كافة حول هذه الرؤية، وقطع الطريق على تفتيت اللحمة الاجتماعية وإشعال فتيل الصدام الجهوي ليتسنى بناء وفاق وطني واسع داخل المدينة.
لم يحدث هذا، بل انطلقت الكرامة لضرب التشكيلات جميعها، حتى من عرفوا بدورهم الإيجابي في تأمين مدن الجنوب وفرض سيادة الدولة مثل كتيبة عمر المختار وسرية مالك، حيث كانت الأخيرة أولى المجموعات التي تم مهاجمتها.
ومع ظهور بوادر فشل الحل الذي انتهجه اللواء خليفة حفتر لم يعل صوت العقل عبر تكتل للأعيان والنخب والنشطاء لتدارك الوضع، بل استمر الصمت واستمر غياب صوت العقل، وجاءت الدعوة لانتفاضة 15 أكتوبر، وانتقل الصراع إلى وضع مرعب ومخيف وهو يتجه إلى سيناريو أكثر رعباً ودماراً، ولا حراك ولا مكان لصوت العقل.
ليتقدم أي من العقلاء بإقناعنا أن سيناريو الحرب له نهاية مبهجة بكلام منطقي وتحليل استراتيجي، ونحن سنلتزم الصمت كغيرنا ونقبل بالخراب الواقع؛ لأن أمامنا وفي القريب العاجل مستقبل زاهر تحققه هذه الحرب الضروس.
ومع قناعتنا بأنه لا أفق لمستقبل مشرق قريب مع استمرار المعارك، أدعو أهل العقل والنظر من مدن برقة كافة، أن يتداركوا الموقف بحكمة تنطلق من جمع الصف ووأد الفتنة الجهوية، والتوافق على مقاربة لوقف الحرب وتسوية الوضع وفق معايير بعيدة عن التهييج والشحن.
أعلم أننا في سباق مع الزمن لوقف العنف وأن وقف الاقتتال وبناء توافق صار صعباً اليوم، ولكن من المؤكد أن العملية ستكون أكثر تعقيداً بل ومستحيلة، في حال استمر الوضع الراهن على ما هو عليه أشهراً أو حتى أسابيع.