حياتهن قاسية، بيد أنّهن تعلّمن التعامل مع منحنياتها وتقلّباتها.. هنّ يواجهنها هكذا دون سلاح، رافضات الانصياع لوجهها البائس على الدوام.. تلك هي حياة الحرفيات المستقلات في مدينة تمبكتو التاريخية بالشمال
المالي.. حياة شاقة ومليئة بالصعاب، ومع ذلك فضّلن مواجهتها بالاتحاد فيما بينهن، والتحليق بأجنحتهن المكسورة حينا والمرممّة أحيانا، ليكنّ بذلك عنوان نجاح يتحدّى جميع الصعاب.
مواجهة شبح الفقر في مدينة تعيش وضعا أمنيا غير مستقر كالذي تشهده تمبكتو، ليس بالأمر اليسير، ولذلك، فضّلت الحرفيات أو العاملات في مجال الحرف اليدوية الانضواء ضمن
جمعية واحدة، تضمن لهنّ البقاء، وتصدير مهارتهن إلى ما وراء الحدود.
وقد اخترن لهذه الجمعية الاسم الثاني لمدينتهن، ألا وهو "أرض الرجال السود" أو "ألبيلالي سودان"، كما يحلو للسكان تسميتها باللهجة المحلية. وتتولّى رئاستها الفخرية النائبة عن المدينة في البرلمان المالي "عزيزة منت كاتارا".
الجمعية ضمّت
نساء لديهن أكثر من قاسم مشترك فيما بينهن.. فإلى جانب الانتظارات والآمال والعقبات المهنية، فهنّ جميعا أصدقاء طفولة. رئيستها، السيدة "بادجي ديديو" قالت، متحدّثة عن البدايات "لقد تعدّينا جميعنا الأربعين من العمر، ونحن أصدقاء طفولة. في السابق، كنا نجتمع كلّ مساء أربعاء في منزل واحدة منا لتناول الوجبات ومناقشة بعض المواضيع.. وفي أحد الأيام، راودتنا فكرة استثمار هذه الصداقة في إنجاز يخدم مجموعتنا".
البداية انطلقت بفكرة سرعان ما تبلورت عبر قرارات مختلفة اتخذتها تلك المجموعة النسائية، قبل الاتفاق نهائيا على هدف يقضي بالسهر على نظافة المدينة، فكان أن توزّعن في شكل مجموعات، يكنسن جميع أسواق المدينة ومقرّ البلدية، والمدارس والطرقات.
مبادرة حملت في أبعادها الكثير من قيم التضامن والتآزر، وأفسحت لذلك الحشد النسائي مجال العبور نحو رتبة "فريق المصلحة الاقتصادية". "ترقية" حصلن عليها من بلدية المدينة، مرفوقة بمكافأة مالية بقيمة 150 ألف فرنك افريقي (285.27 دولار). كما حصلن على حقّ الحصول على منتجات التنظيف من "الإدارة الوطنية لخدمات الصرف الصحي" بتمبكتو.
ربيع أولئك السيدات لم يدم طويلا.. فمع حلول "حركة أنصار الدين" المسلّحة بقيادة الزعيم التقليدي "إياد أغ غالي"، إلى المدينة، اندثرت نفحات ربيعهن، ليحلّ محلها جليد أتى على آمالهن، فلقد أجبرهن المسلّحون على وقف أنشطتهن الموجّهة للمصلحة العامة في المدينة.
ورغم الخطر الداهم الذي أجهض أحلام أولئك النساء في المهد، إلا أنّهن لم يستسلمن، وأعدن تنظيم صفوفهن من جديد. حدث ذلك لدى اجتماعهن بمنزل رئيسة الجمعية، حيث توصّلن إلى فكرة أخرى.. ومغامرة أخرى.. كنا لا يقفن إلا لالتقاط أنفسهن، ولا يتراجعن إلا بالقدر الذي يسمح لهن بالوثب لأطول مسافة ممكنة.. اخترن هذه المرة خوض مغامرة أخرى، وهن، اليوم، ينشطن في مجال تحويل القمح الذي ينمو في المنطقة إلى حبات صلبة لإعداد وجبة الكسكس الشهيرة، والمعكرونة والخبز.
"ألهايما هاسيي"، إحدى أعضاء الجمعية، انتهزت فرصة وجود مراسل الأناضول لتقول "لقد طاردنا مسلّحو أنصار الدين في مناسبتين، ومنعوا التجمّعات وسط المدينة".
وفي السياق ذاته، قالت رئيسة الجمعية "لقد اضطررنا لتعليق أنشطتنا إلى حين استعادة السلام ولو بصفة جزئية.. وفي الأثناء، قدّمنا ملفاتنا للحصول على المساعدة من البلدية، من أجل إنشاء مركز متعدّد الوظائف".
وبموجب هذه الطلبات، حصلت الجمعية على دعم مالي مكّنها من إطلاق
عملية تحويل القمح، وليس ذلك فحسب، وإنّما حصل أفرادها على تكوين في المجال، وهو ما يعدّ نقلة نوعية في حياة نساء معظمهن أمّيات.
أمينة صندوق الجمعية "فاطمة الحسيني"، أشارت من جانبها، إلى أنّه "وبفضل الله، نحن نجتمع كلّ أربعاء بمقرّ الجمعية للعمل. نقوم بانتاج مواد غذائية بجودة عالية، ونبيع بأرخص الأسعار، بينما نستثمر الأرباح في تمويل الوجبات المدرسية لأطفالنا ومساعدة أزواجنا في توفير متطلّبات أسرنا".
قصة نجاح فريدة من نوعها، في خضمّ سياق بالغ التعقيد كالذي تشهده تمبكتو الواقعة شمالي مالي. هذه المدينة التاريخية المشهورة بأضرحتها ومعالمها الدينية، معروفة أيضا بمحافظتها على تراث غذائي توارثه سكانها عبر الأجيال، وهذا ما جعل من الأخير نشاطا رئيسيا شهيرا في تلك المدينة. فالخبز لا يزال تقليديا إلى حدّ الآن، حيث يتم إعداده في أفران مصنوعة يدويا من الطين، وهذا النشاط كان ولا يزال حكرا على النساء دون الرجال في تمبكتو.