كل صاحب (قلم شريف) كان يتمنى إما أن يقول قولاًً فصلاًً لم يقله سواه من قبل، أو التواري بالألم الذي لم يوازه إلا استشعار ألم أخت فارقت أخاها الوحيد .. في إحدى قرى محافظة المنيا النائية، وكان عمرها قرابة الأربعة عشر عاماً، وتتحدث إلى مراسلة لصحفية من ذوات الصحافة الانقلابية الخاصة المغمورة، وتقول لها بلهجتها الأثيرة المحببة إلى النفس، لهجة أهالي مسقط رأسي، وعشق ذرات تراب جسدي، في لغة تفوح منها رائحة الطيبة المحببة إلى كل شريف مؤمن كانت تقول:
ـ قولي لهم أنت يا (أبلة) .. يمكن يفهموا منك .. أخوي هوه اللي بيصرف علينا .. أنا وأمي العاجزة جوه مش قادره تصدق إنه مقبوض عليه.. ومنتظره الحكم القاسي ده.. ده ما عملش حاجة .. أخوي بريء والله ، إزاي القاضي عاوز يديله إعدام، منين يجيله قلب، كإننا بنقوله شكه في قلب ابنك .. هل يطيقها على نفسه، فلماذا يطيقها على أخي، وإحنا مين اللي هيصرف و(يشقر) علينا .. ده إحنا .. إحنا (ولايا) يا أبلة .. ولايا والله!
ليس كألم أحد ألم إلا أهالي المقبوض عليهم تتجافى جنوبهم عن المنام آناء الليل وأطراف النهار، يبحثون عن لقمة عيش، مطرودين من أمام أبواب الصديق قبل العدو، يطعمهم الله ويسقيهم من فضله، وتقاعس الجميع عن نصرتهم اللهم إلا من رحم ربي، ليس من مصاب إلا المصابين في الثورة .. ضربوا برصاص خاص يتفتت داخل الجسد فلا يبقى على المسام، ولا على الخلايا ومسارات الدم، ويحتار الطب العادي في طب الحروب، ورصاص مستورد من العدو الاكبر، وكنا بلهاء نفترض أن يتم توجيهه للعدو الأكبر، أو تعطينا أمريكا منحاً في شكل أسلحة، و(علفاً) لجيشنا من دورات تدريبية، ومكآفأت عينية في شكل دولارات، وفنادق تبنى على أعلى مستوى، ونوادي للقوات المسلحة، ونظن أن سلاحهم لنا .. بل لصدورنا..
ليس من متألم في مصر صاحب قلم..أو فكر .. أو (كلمتين وبس)، أو مسافر يدعي الجهاد بماء الورد من الغربة؟.. اللهم إلا من أجبر على السفر..
لم أكن أنوي الكتابة، ولكن دموع شاب لا أعرفه اسمه (عبد الله) جرحتني فلم أستطع انصرافاً عنها، نادت ما تبقى من حياة في عقلي، ويقظة في وجداني، وهل ينام مطلوب عن حق يطلب بعضه..بعضه؟! إن بقاءك أيها الشاب الغر البريء الجميل، باكياً استدراجاً لمثلي، بل لأمثالنا جميعاً لنبكي طويلاً جداً .. كما بكيتْ، مثلك لم يستطع الكلام والدور قادم إلينا جميعاً إن لم نتوحد .. إن لم ..
على مثله نادى الأحمق الذي صار رئيساً في غفلة من كل حر شريف في مصر..
نادى على الشباب قائد الانقلاب.. (أنا عاوزك جنبي) .. ولا أدري كيف أكمل (تخاريفه) أو مبرراته ل (عاوزك) وضربه المنضدة بعد قولها؟..
أما لماذا تخاريف؟!.. فدعوني أحكي لكم قصة (ابننا) جميعاً (عبد الله) فالدور قادم على ابن كل منا إن لم نستمع جيداً إلى قصته..
رأى في التلفزيون والفضائيات مساء أمس الأول، أو الذي قبله أن الشباب الطاهر البريء من أمثاله استطاع النزول إلى ميدان التحرير، أو قل محيطه، آخر ميدان عبد المنعم رياض، وأول ميدان التحرير لمن يحفظ تضاريس الميدان رصيفاً .. رصيفاً، بل حبة حجارة (زلط) صغيرة محفورة في قلب إسفلته، حبة حبة، تشرق الشمس وتغيب عليه .. ويأتي زمهرير البرد فلا تجد أحبابه من الثوار، كانوا يدفئون ليله، ويحيون قارص وحر نهاره، ويكتبون على حوائطه كلمات تحض على حضارة مصر الجديدة، على سور المتحف المصري (الطوبي) اللون، كرهتْ تلك الحجارة دبابات وبيادات العسكر القاسية القلب .. معدومة الروح ..
نزل عبد الله إلى الميدان بشبابه الغض، وبحبه لوطنه الحلم المعشش بين رمشه وجفنه وإنسان عينيه، تذكر أصدقاءه الذين ماتوا وسالتْ على أرض مصر الثائرة دماؤهم، فلم يستطع بقاء، ذقنه ما تزال طويلة حزناً عليهم، وملابسه بسيطة أملاً في واقع أكثر إشراقاً تتبدل فيه..
مسالماً جاء إلى حدود الميدان، رفع صورة أحد أصدقائه، وهتف بدمهم الذي يبنغي أن يجيء رغم حكم تبرئة مبارك .. الظالم الجائر .. المفارق لكل حقيقة في عدل رب العباد، الحكم الذي أضحك العالم علينا، وبعضنا يزعم أن دوله المتقدمة كافرة، لكن ليست جائرة على الأقل في داخلها، بحدودها، والله تعالى يمد للأمة العادلة، ولو كانت كافرة، ويسمح بإهانة الظالمة ولو كانت مؤمنة، وإلا فبريطانيا التي لا تدين بعادل ديننا، في 26 من نوفمبر الفائت، قضت بمحاسبة أي مسؤول مصري يهبط أرضها عسكرياً أو مدنياً، فيما بلدنا تكرمهم، إنهم يعلون من راية الإنسان يا (أفندم) فيما ننكسها، وما زلنا مع قصة عبد الله .. وكلنا عبد الله، لكن لما سئلت نائبة رئيس وزراء فلندا عن سبب تقدمهم وتخلفنا قالت:
ـ لأننا نبني الإنسان وأنتم تهدمونه ..
نهدم (عبد الله)..
أخذوه إلى القسم .. وهو خارج التقته مراسلة، علّها صحفية شابة، أمنت روعه، وحاولت التخفيف عنه، مرفق الفيديو، فلما هدأ قال لها:
ضربونا بالعصي، مدنيون ..ضربونا، ضرب بين الرجلين، بالشلاليت، وواحد صورنا..
ـ شرطة برضه ولا مباحث؟
ـ لأ ..جيش ومعلق نسر ودبورة على رقبته..
الشاب يتحدث ببراءة الشباب التي تريدها يا (بياع الكلام) المسمى اللواء، معلهش ما تنفعش هنا كلمة مشير، لما قابلك الرئيس الشرعي محمد مرسي، كنت لواء فرقاك، فلم (يطمر) فيك، هذا هو الشباب النقي يا (ممثل) الجيش العاطفي، هذا هو الشباب البريء يقول لك (ضربونا) ب (الشلاليت) (كده) بين (رجلينا) .. وددتُ لو دفعت من عمري يا بني ونصرتك، وددتُ لو جففت دمعك بعقد من ضوء الشمس، من الخناجر أطعن بها كل ظالم، كل حاكم خائن لأهله (ناسه) وبسطاء بلده.. من أجل مليارات مغموسة بدمائهم جميعاً، وسيموتون ويتركونها، كما مات آباؤهم من قبل، لوأن الأمر لي لجففت دموعك بدم قادة الغرب الذين يقرون العدالة في النهار في بلادهم، ويصدرونها لنا في الغرف المغلقة قمة النخاسة والظلم..
هذا هو الشباب في عهدك ..ويصورهم بكاميرا (نسر ودبورة) في الجيش .. اللهم صب لعناتك على أمثالهم ..
لماذا يصوره النسر والدبورة يا قائد الانقلاب الكاذب دائماً .. ألهذا تريدهم، ويريدهم جيشك الخائن؟
لحظة أن قال الشاب إنه لايريد شيئاً، والحمد لله، كركر بالضحك شاب آخر، يقف بعيداً بعض الشيء عن سور مجلس الشورى حيث كانت الزميلة الطاهرة تصور، كركر ليثبت أن في مصر شباباً لا يعرف ديناً ولا ملة ولا وجهاً لرحمة الله تعالى، شباب انتهازي من مثل السيسي، ثم قال عبد الله آخر جملة ومضى تاركاً الزميلة، جملة كانت مضنية، تحرم كل إنسان لديه شرف ودين المنام..
قال لها:
ـ أنا عاوز أسيبها .. أسيب مصر وأسافر..
وسالت دموعه من جديد تبلل وجهه الغض النقي طويلاً ..
ثم تركها ومضى فيما الشباب الضاحك المستهزيء يشير للصحفية أن لا فائدة ..
ـ كسروك يا عبد الله.. كسروا الشباب؟!
أشار أن نعم .. ومضى..قبلها بكى كثيراً..
والله يا عبد الله إن فرجك قادم ..
ودحر قضائنا الظالم قادم، المستشار الذي حكم بالتبرئة، المسافر للإقامة في بلد خليجي على حساب ابنها مع عائلته اليوم، الذي قال إنه يرى منامه، أو ما لا أدريه من الهراء، رقاده ملحده، المغني الجديد.. كسرت عبد الله .. وكل عبد الله في مصر ..
وكسرك والله قادم..