قضايا وآراء

كلنا ننتحر.. ولكن !

عادل الحلبي
1300x600
1300x600
لا إله إلا الله الحليم العظيم غافر الذنب وقابل التوب .. سبق عفوه حِلمه، وسبق حِلمه غضبه.. هو الذي خلق الموت والحياة وكلاً في كتاب مبين.. فلا عاجل لما قدر ولا آجل لما قضى.. وما أخر طبيب من عمره، ولا سبق منتحر أجله.. سبحانه سبحانه، ولا تقال إلا له.. لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وما اطلع على غيبه أو عِلمه أحد.  
 
وليكن لنا ممن سبقنا إلى رحاب الله وأقدم على الانتحار درس لنقف مع أنفسنا طويلاً قبل أن يكون لنا فيه عظة وعبرة، ونتدبر ماذا حل به من خطب ليُقدم على فعلته ويزهق روحه، وإني على يقين أن الجواب بلسان حالنا لا يخفى علينا، ولكنا تناسينا أن ما بين العقل والجنون أقل من طرفة عين وانتباهتها، والأمر كله لله جل في علاه، هو الذي وهبنا "العقل" لنعي ونتدبر وإنه على ذهاب به لقادر .. هم الذين خارت عزائمهم وانكسرت قامتهم أمام أبنائهم وبناتهم وأهليهم، وأذلهم غلاظ القلوب الشِداد، وقسوا على مشاعرهم كأنهم ملح الأرض لا قيمة لهم، ولو شعرنا بهم لبكت عليهم نياط قلوبنا، وانفطرت عليهم السماء.  
 
من منا لم يمر بالضيق والكدر، واستشعر أن الخلاص من فشله أو مرضه أو كبوته مرهون بنهايته .. من منا لم يضعف في لحظات الكرب والضنك .. من منا لم يلطم خده ولم يشق ثوبه .. من منا لم يضق بنفسه ذرعاً وسب يومه وأمسه .. من منا لم يتمنى نفسه لو كان ثمرة أو شجرة أو ورقة في مهب الريح .. من منا لم يلعن حياته واليوم الذي ولد فيه وتمنى مماته .. من منا لم يخطر بباله هاجس الانتحار ليضع حداً للبؤس والشقاء موقناً في قرارة نفسه أن رحاب الله جل في علاه سيكون أجود وأرحم من جوار الوحوش الضارية، الذين يتصارعون ليل نهار ويتكالبون على الحياة الدنيا .. ويطؤون بأقدامهم الفقراء وذوي الحاجة .. من منا لم يتمنى لو لم يكن شيئاً مذكوراً ؟
  
هونوا على أنفسكم يا من ضاقت عليكم الحياة، ولفظتكم الدنيا واسود ليلها، وحلك ظلامها وفاض خطبها، وطفح الكيل وبلغ السيل الزُبى، ولم يبق في قوس الصبر منزع، يا من شح قوتكم، وخرّب الغلاء والبلاء بيوتكم، وبلغت القلوب الحناجر من فزعها وهلعها واضطرابها .. فواللهِ إن الفجر لآت، ولسوف يجزيكم الله ما وعدكم حقاً .. ثواب الصبر على ما ابتلاكم به من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات .. أبشروا واسترجعوا الله العظيم، وليكن زادكم وماؤكم إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
 
وأنتم على رِسلِكم يا من أنعم الله عليكم بتاج العافية، وأغدق عليكم المال والجاه والبنين، ولم يكدر صفو ترفكم بفقر أو ضيق أو فاقة أو جنون، ولا يشمت بعضكم بمن ضاقت عليه نفسه فأقدم على الانتحار، و لا يسخر من أنعم الله عليه بعقله ممن فقده في لحظة انهيار؛ فمن منح النعمة قادر على ذهاب بها .. فلا تحسبوهم أقدموا على الانتحار وهم في أوج قواهم، أو أن أفلاكهم تدور بإذنهم في مسار أبراجهم أو طالعهم السعد .. لا والله إنهم صبروا واحتسبوا، وبكوا بليل طويل لا نامت فيه أعينهم، وأرق مضاجعهم الغلاء والوباء والأمراض .. بكوا وابتلت لحاهم دون أن نشعر بهم. 
 
أسفاً قد استهنا بحرمة الإنسان الذي كرمه الله وخلقه في أجمل صورة ما شاء ركبه، وصنعنا له الحيل ودبرنا له المكائد ليتعثر ويهوي في أضيق حفرة لنتشف فيه والدموع تملأ عينيه، ونشمت فيه وهو يتوسل إلينا، ونسخر منه وهو يصارع الموت .. كل منتحر ما هو إلا صفعة على وجه من أودى به إلى هذا المنعطف .. رحمك الله يا عمر "لو بغلة في أرض العراق تعثرت لسألني الله عليها.. لم لا تسوي لها الطريق ياعمر" .. وعلى كلٍ قضى الله الموت على كل حىي، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها.. (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً) صدق الله العظيم.
التعليقات (0)