إنه مما لاشك فيه أن أكثر الدول التي تمثل خطرا وتهديدا وجوديا على
إسرائيل، هي تلك الدول الملاصقة لها جغرافيا (مصر، سوريا، الأردن، لبنان)، فيما يعرف تقليديا بدول الطوق التي خاضت معها إسرائيل حروبا متبادلة منذ نشأتها.
ومما يزيد خطورة معظم تلك الدول لدى إسرائيل أنها تتفوق عليها ،سواءً من حيث التكتل الديموغرافي، أو الاتساع الجغرافى، ولاسيما مصر وسوريا اللتين تمثلان تفوقا كاسحا فى هذا الإطار
لذلك كان على إسرائيل أن تتعامل مع هذا الخطر الداهم بتقليصه إلى أقصى درجة ممكنة، فيما يمكن دعوته باستراتيجية "الطوق الرقيق"، التى يمكن تعريفها كالتالي: إنها خلق كيانات أو دول أصغر مساحة وسكانا يتم استقطاعها من أطراف
دول الطوق التقليدية المحيطة بإسرائيل؛ لتنشأ دول طوق جديدة، تتفوق عليها اسرائيل مساحة أو ديموغرافيا، وتفصل بينها وبين الكتل السكانية الكبرى فى دول الطوق السابقة.
وبالطبع فإني أعنى بكلمة "الرقيق " هنا الأقل "سمكا " فى المساحة والديموغرافيا عن دول الطوق التقليدية وقد يعنى أيضا كما يشيع لدى المصريين "اللطيف الحنون".
وتعد الدولتان المعنيتان بشكلٍ كبير لتنفيذ تلك الإستراتيجية فيهما وهما مصر وسوريا بما أنهما الأكثر خطورة على إسرائيل من بين دول الطوق مساحة وسكانا، بينما تعتبركما يلى المناطق الحدودية المؤهلة فيهما لتكون دول الطوق الرقيق الجديدة.
سيناء فى مصر وجنوب سوريا المحاذى لإسرائيل متمثلا فى السويداء ودرعا والقنيطرة
وبعد ذكر الدوافع والتصور العام لهذه الإستراتيجية وجب التنويه الى أن تلك الإستراتيجية ليست جديدة بل تم السعى لتطبيقها فى الماضى فى عام 67، كما فى مشروع الدولة الدرزية أو دولة سيناء البدوية أو حتى دولة العلويين فى عهد الاستعمار، التى تبدو فى الظاهر جغرافيا بعيدة عن هذه المعادلة. لكنه فى الواقع تم احباطهم جميعا بفعل عوامل مختلفة منها التوجه القومي لبعض الزعماء السياسيين لتلك الطوائف، أو وطنية البعض، أو عدم تهيؤ الظروف.
إلا أنه مع حدوث متغير ضخم شكل معادلات جديدة فى المنطقة ألا وهو "الثورات"، تبدو الخطة القديمة الجديدة كأنها فى طور التفعيل، بل قطعت أشواطا فى مراحل التنفيذ.
ولمزيد من الإيضاح، فإن الثورات فى المنطقة ومعاركها المستمرة مع الثورات المضادة والانقلابات أحدثت أنماطا جديدة فى العلاقة بين مكونات مجتمعات المنطقة المختلفة، التى تتسم فى اطارها العام بالصراع، كالعلاقة بين الاغلبية والأقليات الدينية والقومية وعلاقة المركز بالأطراف.
ويكاد يجمع المراقبون والخبراء أن تلك التفاعلات العنيفة فى المنطقة قد وضعت تقسيمات المنطقة التقليدية، كسايكس وبيكو فى حالة موت موت سريرى، وينتظر اعلان الوفاة بشكل رسمي ليبدأ ظهور التقسيمات الجديدة.
وبناء على تلك المعطيات الجديدة فإن اسرائيل تسعى لتوجيه تلك المتغيرات وقولبتها فى أطر مناسبة لها، فيما أسميته سابقا بالطوق الرقيق.
وسوف أقدم فى مقال قادم ان شاء الله تناولا تفصيليا لماهية كيانات الطوق الجديدة والظروف الداخلية والخارجية التى تمهد لقيامها.