العسكر والساسة وكثير من الطامحين الذين لم يكن أحد قد سمع بهم من قبل لعبوا بلبنان أبان الحرب الأهلية، وحكموا ضمن كنتوناتهم الطائفية، واقتسمت الطوائف والمذاهب الجغرافيا والبشر، بيروت الشرقية للمسيحيين والغربية للمسلمين.
كان
الجنرالات، في الجيش الرسمي يقومون بدور الشرطي والمراقب ورجل الإطفاء والإحصاء، من الذي خرق وقف إطلاق النار وكم قتيلا سقط في مواجهات اليوم!
العائلات والساسة تسيدوا ساحة المعركة، آل الجميل وآل شمعون والبطريركية وآل المر في الشرقية، وخلطة عجيبة من السنة والفلسطينيين والقوميين في الغربية، وحركة "أمل"، قبل أن يأتي "
حزب الله"، كانت الواجهة العسكرية والسياسية للشيعة في الضاحية الجنوبية، وفي الجبل تربع وليد جنبلاط على هرم الطائفة الدرزية، واكتفت عائلات السنة التقليدية بالحكومة، وتبادل آل كرامي وآل الحص وآل الوزان المنصب.
في الحرب حكم الساسة، وفي السلم حاول الجنرالات استعادة ما أخذ منهم بالقوة، وحين هدأت المعارك دخل ساسة الحرب الأهلية، الذين هم بالأصل قادة الميليشيا، البرلمان من أوسع أبوابه، واتفق الجميع في الطائف على المصالحة الوطنية.
ثم أنهم دخلوا الحكومات واستلموا المناصب الوزارية والدبلوماسية، غسيل سياسي على درجة عالية من النظافة لجيل من القادة ولد وكبر أمام فوهات البنادق.
هل نقول إن العسكر قاموا بـ"مدننة" الجيش، أو بعسكرة السلطة!
الطائف لملمت شتات
اللبنانيين، فجاء الجميع دون استثناء إلى المملكة العربية السعودية واتفقوا على إغلاق ملف الاقتتال، لكن العماد ميشيل
عون قائد الجيش لم يرض بما أعلن في الطائف، فأعلن عن حكومة انتقالية في بيروت الشرقية، والعماد إميل لحود لم يرق له حال رفيق السلاح عون فانتقل إلى الغربية، ولإنهاء "تمرد عون" عين لحود قائداً للجيش فدعا الضباط والجنود إلى الالتحاق بالقيادة الشرعية للجيش وعدم الخوض في السياسة، وأذاب الطائفية والفئوية مقدماً عليها الجندية.
عون كان حاضرا في الحرب وفي السلم، وتقلب على جمر المواقف المتناقضة مثل عدوه اللدود وليد جبنلاط، ونقل البندقية من كتف إلى آخر أكثر من مرة.
خصومه يتهمونه بعدم القدرة على التخطيط ويأخذون عليه شعوبيته ويعتبرونه متغطرسا ويلقبونه بسخرية "نابولعون". فيما يرى فيه أنصاره ديغولا جديدا (نسبة إلى الزعيم الفرنسي شارل ديغول) و"منقذا للبنان".
عون المولود في فبراير/شباط 1935 في الضاحية الجنوبية ببلدة حارة حريك، شخصية مركبة ومعقدة، يبدو عصبيا ومنفعلاً على الدوام، تطوع في السلك العسكري بصفة تلميذ ضابط عام 1955، وعمل في حرب حزيران/ يونيو عام 1967 ضمن فوج المدفعية الثالث المتمركز في الخريبة، وأثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 كان قائد اللواء الثامن المرابط قرب
قصر بعبدا.
برز في عام 1983 على جبهة سوق الغرب، جنوب شرق بيروت، إذ خاض معارك عنيفة ضد المليشيا الدرزية بقيادة جنبلاط.
وتدرج في الترقية إلى أن وصل إلى رتبة عماد مع تعيينه قائدًا للجيش في تموز/ يونيو عام 1984.
في تلك الفترة كان عون مسكونا بالعداء للنظام السوري، فدخل في مواجهات دامية مع الجيش السوري في لبنان ثم مع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع.
كلف برئاسة الحكومة من قبل الرئيس أمين الجميل قبل عشر دقائق من انتهاء ولايته بعد أن تعذر انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وأصبحت حكومة عون في مواجهة الحكومة المدنية التي كان يرأسها بالنيابة الرئيس سليم الحص.
هذا الوضع كان مريحا بالنسبة لعون، لذلك نجده يفقد قدرته على التحكم بمزاجه في آب/ أغسطس عام 1989 بعد أن تم التوصل بوساطة السعودية إلى اتفاق الطائف الذي كان بداية لإنهاء الحرب الأهلية، ولكن عون رفض الاتفاق بشقه الخارجي، لأنه يقضي بانتشار سوري على الأراضي اللبنانية ولا يحدد آلية لانسحابه من لبنان.
ولم يتنازل عون عن رئاسة الحكومة الانتقالية رغم التوقيع على وثيقة الوفاق الوطني وتنصيب الرئيس إلياس الهراوي رئيسا للبنان.
قام الجيش اللبناني بقيادة العماد إميل لحود وبمؤازرة الجيش السوري بقصف قصر بعبدا، فأرغم عون على الخروج من القصر بخطة أمنية فرنسية أشرف عليها السفير الفرنسي في بيروت بعد أن لجأ في تشرين الأول/ أكتوبر 1990 إلى السفارة الفرنسية في بيروت وبقي هناك لفترة من الزمن حتى سمح له بالتوجه إلى منفاه في فرنسا في أب/ أغسطس 1991.
عاد في أيار/ مايو 2005 من فرنسا التي قضى فيها 15 عامًا، ليخوض معركة الانتخابات النيابية التي أجريت في نفس الشهر، ودخل البرلمان بكتلة نيابية هي ثاني أكبر كتلة في البرلمان، متزعما "التيار الوطني الحر".
وفي العام التالي قام بالتوقيع على وثيقة تفاهم مع "حزب الله" وهو الذي كان قبل قليل يصف حزب الله بأنه "ميلشيا طائفية".
وشارك عون في مؤتمر الدوحة الذي انتهى بالتوقيع على اتفاق الدوحة في أيار/ مايو 2008، و بعد توقيع الاتفاق شكلت حكومة وحدة وطنية تمثل كل الفئات اللبنانية وحصلت كتلته النيابية على خمس حقائب وزارية.
تحسنت علاقته مع سوريا وأشيع أنه عاد من المنفى بصفقة مع سوريا وزار دمشق في كانون الأول/ ديسمبر عام 2008 والتقى مع الرئيس السوري بشار الأسد بعد عداوة مريرة مع نظام الرئيس الأسبق حافظ الأسد.
عون الذي خاض ضد دمشق أعنف المعارك العسكرية والسياسية، وكان يسمي الوجود السوري في لبنان بـ"الاحتلال السوري للبنان" وجاهر بعلاقاته الوطيدة مع اللوبي اليهودي في أمريكا، و حضر كشاهد عيان أمام لجان الكونجرس الأمريكي عشية إصدار قانون محاسبة سوريا، وكان من الصقور الذين تبنوا ذلك القانون بشراسة، يرفع الآن شعار المقاومة والممانعة.
انقلاب عون لم يشمل العلاقة مع دمشق و"حزب الله" فقط وإنما امتد إلى ملفات أخرى، فبعد اتفاق الدوحة ، أوعز عون إلى معاونيه أن يرفعوا اليافطات في الأشرفية والمناطق المسيحية الأخرى بعنوان: "استعادة حقوق المسيحيين". وفي عام 2013، يشن عون غاراته على القانون إياه تحت عنوان "قانون الستين (أي قانون الدوحة) يصادر حقوق المسيحيين"!
عون سياسي ذكي استطاع استثمار علاقته بـ"حزب الله" ليعطل الاستحقاق الدستوري في اختيار رئيس الجمهورية، مما دفع أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله إلى إشعال المعركة السياسية قائلا إن حليفه عون هو "المرشح الأفضل تمثيلا لانتخابات الرئاسة"، تلك الانتخابات المعطلة منذ أكثر من خمسة أشهر.
ولم تنجح دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري في نيسان/ أبريل الماضي لعقد جلسة للمجلس من أجل انتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس ميشيل سليمان، ولم يكتمل نصاب الجلسة بسبب مقاطعة نواب "حزب الله" وحلفائه للجلسات التي تحتاج إلى ثلثي الأعضاء من أصل 128 هو عدد أعضاء البرلمان.
ودعا نصرالله الفريق الآخر إلى "عدم الرهان على متغيرات إقليمية ودولية"، مشيرا إلى أن حليفيه الإقليميين (سوريا وإيران) "فوضا المقاومة" اختيار الرئيس، بينما الحلفاء الإقليميون للطرف الآخر، وسمى منهم السعودية، "يضعون فيتوات".
عون لا يخفى عداءه للمعسكر السني في لبنان ويرى أن "التحالف الشيعي- الماروني هو الوسيلة لمواجهة التهديد السنّي الداخلي والخارجي".
وحين يتحدث عون في مجالسه الخاصة أو مؤتمراته الصحفية يتحدث كزعيم أقلية وطائفة و ليس كزعيم دولة، ومحاولات إقصائه للسنة و لتيار عريض من المسيحيين المعارضين له، قد لا تؤهله ليكون رئيسا توافقيا للبنان الذي يمر حاليا بمرحلة تشرذم وتشطير غير مسبوقة، وباتت العملية السياسية شبه معطلة ومشلولة تماما عن الحركة.
لبنان تعيش الفوضى والتشطير والتمزق الذي تعيشه دول عربية مثل سوريا وليبيا والعراق واليمن، الفرق الوحيد هو أنه لا يمارس في جبهات القتال المسلح وإنما عبر توزيع التهم وتعطيل العملية السياسية بأكملها في "انتظار غودو" الذي لا يأتي أبدا.