في شرفة منزلها، الواقع غرب مدينة غزة تجلس الشابة العشرينية "سلوى أحمد" على كرسي خشبي، ورأسها يهتز يمينا ويسارا، فيما تسيل دموعها غزيرة على خديّها، وهي لا تصدّق أن زوجها الهادئ الطبّاع، تحول إلى شخص آخر، يدخل يوميا في نوبات غضب وعصبية.
وتشعر "أحمد" (اسم مستعار)، بالاختناق وهي تلملم بقايا الزجاج المتناثر في المكان، فقبل ثلاثة أشهر فقط، كان الاثنان يحتفلان سويا، ويُطفئان الشموع الحمراء، على قالب حلوى عيد زواجهما الأول، في أجواء مفعمة بالسعادة والرومانسية.
غير أنّها الآن، تضطر إلى البقاء صامتة طوال الوقت، أمام شريك حياتها، الذي حولتّه الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، إلى مُقعد، أنهى الكرسي المتحرك نشاطه، وحيويته.
ولم ينل بتر الأطراف السفليّة من جسده فقط كما تروي الزوجة لوكالة الأناضول، بل غيّر حياتها بكامل تفاصيلها.
وتُضيف بنبرة تملؤها الحسرة: "أصيب زوجي خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، وتم بتر أطرافه السفلية، ما أدى إلى شلله، وبات عاجزا عن القيام بدوره كزوج، لقد تحول إلى شخص آخر، لا أعرفه، يصرخ، ويكسر كل ما في طريقه، في حال غضبه الشديد".
ولا يدور الحديث هنا عن علاقة حميمية، وليالٍ دافئة كما تقول أم أحمد (اسم مستعار) (35 عاما)، وهي واحدة من عشرات النساء اللواتي، يعشن حزنا صامتا، وراء الأبواب المُوصدة، فزوجها الذي تعرض لإصابة أفقدته القدرة على الحركة، انتقل من مرتبة الزوج إلى "غريب" كما تقول لوكالة الأناضول.
وتتابع الزوجة صاحبة العينين الزرقاوين: "حرب إسرائيل، لم تحول الرجال إلى عاجزين، وحسب، هي غرست
الوجع في كل زوايا المنزل، زوجي صار غريبا، وبتنا نعيش أنا وأبنائي (أربعة أطفال)، في حالة توتر دائمة".
وشنت إسرائيل حربا على قطاع غزة، في السابع من يوليو/ تموز الماضي، واستمرت 51 يوماً، أسفرت عن مقتل 2166 فلسطينياً، وإصابة أكثر من 11 ألفاً آخرين، وفق وزارة الصحة
الفلسطينية، التي يؤكد الناطق باسمها أشرف القدرة لوكالة الأناضول، أنه من الصعب الحديث عن أي رقم لمن أصابتهم الحرب بعاهات دائمة، وفقدوا القدرة على ممارسة حياتهم كأزواج.
وأكد القدرة، أن مثل هذه الإحصائيات تحتاج إلى بحث دقيق، قد يستمر لأشهر طويلة، للخروج بإحصائية نهائية.
وأضاف: "العدوان الإسرائيلي الأخير، كان شرسا وقاسيا، وأجلس المئات على مقاعد العجز، والعاهات الدائمة، مستشفيات القطاع، انشغلت بعلاج الجرحى والمصابين بشكل عاجل، وهناك من سافر إلى الخارج، لهذا فإنه من الصعب تقديم رقم نهائي ودقيق لمثل هذه الحالات".
وكانت إحصائيات حقوقية فلسطينية، ووفق طواقم البحث الميداني، التابعة لها قدّرت أن أكثر من ألف جريح، أصيبوا في الحرب الإسرائيلية الأخيرة، سيعانون من إعاقة دائمة.
ويقول عوني مطر، رئيس الاتحاد العام للمعاقين في غـزة إن الاتحاد وبالتعاون مع وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية، قدر بأنّ أكثر من (40%) من جرحى العدوان الإسرائيلي أصيبوا بإعاقات (سمعية وبصرية، وحركية).
وأضاف مطر لوكالة الأناضول، أن المئات من هؤلاء، من أصحاب الإعاقة الحركية، تحولوا إلى أشخاص عاجزين، يعانون من الشلل الكامل، يحتاجون إلى تأهيل طبي، ونفسي، "إسرائيل شنت حرب إبادة على قطاع غزة، استهدفت الأجساد والأرواح".
وبعيدا عن الوجع النفسي الناجم عن عدم القدرة على ممارسة الحياة الزوجية، والحرمان من الإنجاب، فإن أصحاب الإعاقة الحركية الدائمة، ومن تعرضوا لبتر في الأطراف السفلية، يعانون وفق تأكيد مطر من أمراض ومشاكل صحيّة، تحتاج إلى رعاية فائقة ومستلزمات طبية خاصة.
ولم يعد منزل "هالة محمد" (اسم مستعار)، دافئا ورديا كما كان قبل أشهر قليلة من الآن، فقد تحول إلى ما يشبه فصل الخريف، كما تقول لوكالة الأناضول.
وبصوت دامع تُضيف "محمد" (29 عاماً): "هناك وجع سري، وصامت نعيشه بعد الحرب، المعاناة لا تتمثل في أن زوجي بات عاجزا عن الإنجاب، وأن حقوقي كزوجة انتهت وإلى الأبد، العجز هنا يشمل البيت، والأطفال (ثلاثة)، لقد تحول الزوج الضاحك، والمفعم بالحيّوية إلى آخر عنيف، وعدواني".
وحرب إسرائيل لم تنتهِ كما تقول الزوجة الشابة مها (25 عاما)، فما من يوم يمر إلا ويعلو صراخ زوجها الذي حوّله القصف الإسرائيلي إلى شخص عاجز.
وتُضيف لوكالة الأناضول وهي تُغمض عينيها، وتضغط بأصابعها على جبينها: "إنها حرب شوهت كل شيء، أحاول أن أتكيف مع الواقع الجديد، وأن أهب زوجي الحنان والدعم والمساندة، ولكن ما أن أفعل ذلك، حتى يبدأ في الصراخ، ويدخل في نوبات من الغضب، وفي حال ظل صامتا فإنني أكون أمام جسد بلا روح".
ومن الطبيعي أن تتحول حياة مبتوري الأطراف إلى جحيم، كما يقول حازم الشوا، مدير مركز الأطراف الصناعيّة، (الوحيد في قطاع غزة)، فهم أكثر الفئات تعرضا للألم والوجع النفسي.
ويقول الشوا لوكالة الأناضول، إنّ المركز يستعد لتركيب أطراف سفلية لنحو 200 جريح، غير أنه شدد على أنّ العجز وعدم القدرة على ممارسة الكثير منهم على حياته الزوجية، والطبيعية تحوله إلى شخص يعيش الصدمة والذهول بشكل يومي.
وهذه الصدمة، من شأنها أن تولد الشعور بالغضب، وهو أخطر من شعور "العجز" كما يؤكد الأخصائي النفسي ببرنامج غزة للصحة النفسية سمير زقوت.
ويؤكد زقوت لوكالة الأناضول، أنّ وراء أبواب غزة الموصدة، ثمة حكايات لا تُصدق عن الوجع اليومي، والحزن السري الذي يحتاج إلى أعوام طويلة من العلاج والتعافي، وقد لا ينجح ذلك وفق قوله.
ويتابع: "الآثار التي خلفتها الحرب الإسرائيلية تتكشف يوما بعد آخر، ولكن هناك أوجاع تشبه الأسرار، ليس كل المرضى، أو ذويهم لديهم الجرأة الاجتماعية في الجلوس على مقاعد
الصحة النفسية، والبوح بمشاعرهم".
وأكدّ زقوت أن الأزواج الذين سلبت الحرب رجولتهم، وحياتهم الخاصة، ينعزلون عن المجتمع المحيط بهم شيئا فشيئا.
ويُضيف: "فجأة تتغير كل حياتهم، الحديث لا يدور عن كرسي متحرك، وعن شلل، تفاصيل حياة بأكملها تغيرت، البيئة المجتمعيّة لهذا الشخص باتت مغايرة لتلك التي كان يعيشها سابقا".
وهنا ينتهي دور البطولة، والرجولة وأشياء أخرى كما يؤكد زقوت، ما يُولد الشعور بالصدمة، والذهول وسرعان ما تتحول في كثير من الحالات إلى غضب شديد ينفجر في وجه الزوجة، والأولاد.
والوجع مكشوف هنا ومحصور بين الزوجين، وهو ما قد يتسبب بالطلاق، أو آثار اجتماعية لا يمكن كشفها.
ويستدرك زقوت: "الحالات التي تطرق أبواب عيادات الصحة النفسية بغزة معدودة، فالألم الحقيقي والمأساة الكبيرة تبقى وراء الأبواب المغلقة، فحتى المصابون ببتر يحاولون أن يخفوا عجزهم، وأن تبقى أوجاعهم الخاصة عبارة عن تابو (محظور)".
وما من دواء سحري هنا، أو جرعة تعادل أوجاع من فقدوا القدرة على ممارسة حياتهم الطبيعية، غير أن الأخصائي النفسي يؤكد أن تأهيل المريض، يحتاج إلى علاج معرفي سلوكي يسبق النفسي.
وتابع: "العلاج يجب أن يعتمد على تغيير الأفكار المشوشة والسلبية، وهذا يحتاج إلى عشرات الجلسات للتخلص من الاضطراب النفسي، العاجز قد يلجأ للعقاقير والأدوية، وليس من السهل تبديل هذه اللوحة السوداء في عيونهم بأخرى بيضاء".
وشدد على أن العلاج يحتاج إلى تضافر جهود جميع شرائح المجتمع، وتقديم الدعم الصحي والاجتماعي والمعنوي والنفسي للتخفيف من حدة هذا الألم الصامت.