ينبغي أن تقرأ ملابسات "
انتفاضة 15 اكتوبر" في ظل إصرار
البرلمان على تغيير المشهد من خلال تحقيق انتصار عسكري. فقد أصبح تحقيق انتصار سريع وساحق مطلب ملح في ظل التجاذبات السياسية والضغوط الدولية للجلوس لطاولة التفاوض، إذ يملك البرلمان القليل من الأوراق المهمة التي يمكن أن تعزز موقفه التفاوضي وتمكنه من فرض شروطه. لذا صار لزاما التعجيل بالسيطرة على كافة المنطقة الشرقية من خلال السيطرة على
بنغازي، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بدعم خارجي وقوة إضافية توفرَّ كثافة نارية دقيقة من الجو تضعف قوات مجلس شورى ثوار بنغازي يتبعها كثافة نارية وتحرك لقوة كبيرة من المشاة على الأرض.
من الواضح أن البرلمان تحصل على دعم يعزز تفوق القوات الجوية التابعة له، وينقصه قوة المشاة وهو ما سعى للوصول إليه من خلال انتفاضة
15 أكتوبر المسلحة بدعوة المسلحين في المدينة الخروج ومساندة الجيش في القضاء على من يصفهم بـ"
الخوارج".
ومن زاوية نظر أخرى، يمكن القول أن الدعوة للانتفاضة المسلحة جاءت في سياق الضغوط الشديدة على عملية الكرامة وقائدها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، فالكرامة لم تحقق الانتصار الذي وعدت به، بل هي في تقهقر - في حال استمر - يفقدها التأييد الذي حازت عليه عند إطلاقها، ويدفع بقوتها بعيد عن أي تأثير حقيقي في المشهد العسكري خصوصا اذا نجح مجلس شورى ثوار بنغازي في السيطرة على مرتفعات "الرجمة"، حينها لن يكون في وسع نيران قوات الكرامة الوصول إلا إلى مدى خارج حدود بنغازي، وسيقتصر الأثر على القصف الجوي وهو أثر ثبت بالتجربة أنه محدود. ولأن قوات الكرامة غير قادرة على إحداث تغيير في ميزان القوى العسكرية على الأرض لجأت لهذه الفكرة الجهنمية، والخطيرة في نفس الوقت، ولكن الضغوط بررت خطورة العملية وصوغت الإقدام عليها.
الاستجابة للانتفاضة المسلحة من قطاعات شعبية عدة تُفسَر من خلال قناعة معظمهم بأن أصل الداء وسبب البلاء هم "الخوارج" وأن قوات الكرامة تمثل الجيش القادر على فرض الأمن والقضاء على الإرهاب وتحقيق طموحات وآمال الناس والتي تلاشت بسبب الفوضى الحادثة.
السيناريو المتوقع ربما كان بخروج القوة العسكرية من معسكري 204 دبابات ومعسكر 21 مشاة، وربما أيضا كتيبة البحرية، لتمثل الجيش الذي أعلن حفتر عن دخوله بنغازي ليلتف حوله مئات من الشباب المسلح الداعم لعملية الكرامة ليشكلوا قوة ضاربة تسيطر على معسكرات ومقرات قوات مجلس شورى بنغازي وتزحف لضرب مواقعها في بنينا، لتلتقي بالقوة المرابطة هناك ويتحقق الانتصار الذي وعد به حفتر في كلمته المقتضبة يوم الثلاثاء الموفق 14 أكتوبر.
الهجوم المباغت الذي قامت به مفارز من مجلس شورى الثوار كان ضربة استباقية لمنع السيناريو المشار إليه، وقد نقلت مصادر عدة وقوف مجلس الثوار على معلومات عن اتخاذ قيادة معسكري 204 و 21 قرارا بالانضمام للانتفاضة المسلحة، وهو التفسير المنطقي لنزول الجيش، إذ لا إمكانية لنزول جيش حفتر من الرجمة في ظل المواجهات الحامية هناك، ولا إمكان لنزول قوات إضافية من المنطقة الشرقية، لأنه في حال وجودها كان الأولى أن تساند قوات حفتر في بنينا التي تتلقى الضربات الموجعة وتتقهقر.
وفي حال القبول بهذا السيناريو، والاعتماد عليه في تحديد مقاربة الانتفاضة المسلحة يمكن القول أن المقاربة فشلت مبدئيا لأن المبادرة أصبحت بيد مجلس الثوار بهجومهم على المعسكرات المشار إليها وفرض حالة الترقب على الخصم وأيضا محافظتهم على معاقلهم الرئيسية من معسكرات ومقارات داخل المدينة، ومنعهم تقدم أي قوة من بنغازي باتجاه بنينا لضرب عناصرهم المتمركزين هناك.
بالمقابل لا يمكن القول بأن الفشل كان كاملا، إذ يمكن أن يترتب على بعض نتائج دعوة الانتفاضة المسلحة وضع جديد، وهو المتعلق بخروج مجموعات مسلحة من الشباب في العديد من الأحياء وإقفالهم بعض الطرقات الرئيسية، ففي حال استمر هذا المشهد فإنه يمكن أن يهدد مجلس شورى بنغازي ويحجم من سيطرته على المدينة خاصة في ظل قلة عدد عناصره والإنهاك الذي أصابهم بسبب القتال المتواصل منذ نحو ستة أشهر، واتساع ساحات الاحتكاك وعدم قدرتهم على تعزيز قواتهم وتجنيد عناصر جديدة قادرة على القتال، وأيضا بسبب تكرار إصابات قادتهم الميدانيين، ومقتل بعضهم.