كتب ناثان ثرول: لم تكن الحرب الحالية على
غزة حرباً سعت إليها إسرائيل أو حماس، ولكن كلاهما كانتا على يقين بأن ثمة مواجهة جديدة على الأبواب. لم تجد اتفاقية وقف إطلاق النار التي أبرمت يوم الحادي والعشرين من نوفمبر 2012، والتي أنهت ثمانية أيام من التراشق المتبادل من جهة بالصورايخ المنطلقة من غزة ومن الجهة المقابلة بالقصف الجوي الإسرائيلي، طريقها للتطبيق.
وكانت هذه الاتفاقية قد اشترطت توقف جميع الفصائل الفلسطينية في غزة عن جميع الأعمال العدوانية ضد إسرائيل وبالمقابل توقف إسرائيل عن هجماتها ضد حماس براً وبحراً وجواً، بما في ذلك التوقف عن استهداف الأفراد (أي الاغتيالات التي كانت في العادة تتم بواسطة صواريخ تطلقها طائرات من غير طيار)، واشترطت كذلك إنهاء حصار غزة نتيجة فتح إسرائيل للمعابر وتسهيل حركة الناس ونقل البضائع، والتوقف عن تقييد حرية حركة سكان القطاع والتوقف عن استهدافهم في المناطق الحدودية.
كما لاحظ بند إضافي في الاتفاقية أن "القضايا الأخرى سيتم النظر فيها"، وذلك في إشارة إلى التزامات تعهدت بها مصر والولايات المتحدة سراً للمساعدة في وقف تهريب الأسلحة إلى غزة، مع أن حماس نفت صحة هذا التفسير للبند المذكور.
خلال الشهور الثلاثة الأولى التي تلت سريان وقف إطلاق النار، لم يسجل الشين بيت سوى هجمة واحدة شهدت إطلاق قذيفتي هاون من غزة في ديسمبر 2012. انبهر بذلك المسؤولون الإسرائيليون، إلا أنهم أقنعوا أنفسهم بأن الهدوء الذي شهدته الحدود مع غزة كان بشكل أساسي ناجماً عن الردع الإسرائيلي وإدراك الفلسطينيين أن لهم مصلحة في ذلك. وبناء عليه لم تجد إسرائيل ما يحفزها على الالتزام بالجزء المتعلق بها من صفقة وقف إطلاق النار. لم تتوان قواتها خلال الشهور الثلاثة الأولى التي تلت سريان وقف إطلاق النار عن القيام باجتياحات منتظمة داخل غزة، وبفتح النار على المزارعين الفلسطينيين وعلى آخرين كانوا يعملون في جمع الخردة وحطام المباني من المنطقة الحدودية، وبإطلاق النار على القوارب مما حال دون أن يتمكن الصيادون من الإبحار خلال الجزء الأكبر من مياه غزة.
لم يتحقق بتاتاً إنهاء الحصار، فقد تعرضت المعابر للإغلاق مراراً وتكراراً، وقلما تمكن المزارعون من الوصول إلى أراضيهم الزراعية داخل ما يسمى بالمناطق المحايدة دون أن يتعرضوا لإطلاق النار عليهم، وانخفضت الواردات، ومنع التصدير، وتقلص عدد الغزيين الذين منحوا تصاريح خروج إلى إسرائيل وإلى الضفة الغربية.
كانت إسرائيل قد التزمت بإجراء مفاوضات غير مباشرة مع حماس بشأن تنفيذ وقف إطلاق النار، إلا أنها أجلت ذلك مراراً وتكراراً، في البداية لأنها أرادت التأكد من أن حماس ملتزمة بالشق الخاص بها من الصفقة، ثم لأن نتنياهو لم يكن قادراً على تقديم مزيد من التنازلات لحماس خلال الأسابيع التي سبقت انتخابات يناير 2013، ثم لأن الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الذي كان قيد التشكيل آنذاك احتاج إلى بعض الوقت ليستقر به المقام. في المحصلة لم تجر المحادثات بتاتاً، وكان الدرس التي تعلمته حماس من ذلك غاية في الوضوح، ومفاده أنه حتى لو جرى التوصل إلى اتفاق بوساطة أمريكية ومصرية، فمن الممكن أن تتملص إسرائيل من الوفاء بتعهداتها.
رغم كل ذلك استمرت حماس، إلى حد بعيد، في الحفاظ على وقف إطلاق النار بما يرضي الإسرائيليين، فقد شكلت قوة شرطية خاصة مهمتها ملاحقة واعتقال الفلسطينيين الذين حاولوا إطلاق صواريخ. عدد الصواريخ التي أطلقت من غزة عام 2013 كان أقل من أي سنة سبقتها منذ العام 2003 حينما جرى إطلاق أول مقذوفات بدائية عبر الحدود. كانت حماس بحاجة إلى مزيد من الوقت حتى يتسنى لها بناء ترسانتها وتحصين دفاعاتها والإعداد للمعركة القادمة التي ستسعى في حينه من خلالها إلى إنهاء الحصار المفروض على غزة بقوة السلاح.
وكانت في الوقت ذاته تأمل أن تبادر مصر إلى الانفتاح على غزة، وبذلك تنهي الأعوام التي حاولت خلالها كل من مصر وإسرائيل تحميل بعضهما البعض المسؤولية عن القطاع وعن سكانه الذين أفقرهم الحصار، وبذلك تتقلص أهمية تخفيف القيود المفروضة على المعابر بين غزة وإسرائيل.
إلا أن آمال حماس تبددت بسبب الانقلاب الذي قاده في القاهرة الجنرال عبد الفتاح السيسي في يوليو 2013، حيث أن نظامه العسكري ذهب يوجه اللوم إلى الرئيس المطاح به محمد مرسي وإلى جماعة الإخوان المسلمين وإلى حركة حماس، فرعها الفلسطيني، محملاً إياهم المسؤولية عن كل ما في مصر من مصائب. جرى حظر المنظمتين ووجهت إلى مرسي تهم بالتآمر مع حماس لضعضعة الأوضاع في البلاد، وحكم علي زعيم جماعة الإخوان المسلمين وعلى المئات من أنصار مرسي بالإعدام. ثم طفق العسكر في مصر يستخدمون وبشكل متزايد خطاباً مهدداً لحماس ومحرضاً عليها، فخشيت الحركة أن تستغل مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية التي تتزعمها حركة فتح حالة الضعف التي طرأت عليها لشن حملة عسكرية منسقة فيما بينهم عليها. في تلك الأثناء فرض حظر على سفر مسؤولي حركة حماس، وقلص إلى نسبة ضئيلة جداً عدد الغزيين الذين يسمح لهم بالعبور إلى مصر مقارنة بما كان عليه الحال قبل الانقلاب. وأغلقت تقريباً كل الأنفاق التي تعد بالمئات والتي كانت تمرر عبرها البضائع القادمة من مصر إلى غزة، وكانت تدر على حركة حماس من الضرائب ما مكنها من دفع رواتب ما يزيد عن أربعين ألفاً من العاملين في القطاع الحكومي في غزة.
حليفا حماس السابقان وداعماها الرئيسيان إلى ما قبل الربيع العربي، إيران وسوريا، لم يكونا على استعداد لمساعدتها ما لم تغدر بالإخوان المسلمين وتنحاز إلى جانب العلوي بشار الأسد في الحرب السورية - النزاعة بشكل متزايد نحو الطائفية - ضد المعارضة التي تغلب عليها الصبغة السنية. أما حلفاء حماس الباقون على العهد فلديهم ما يكفيهم من المشاكل. فتركيا كانت مشغولة بالغليان الشعبي المحلي بينما كانت قطر تتعرض لضغوط من جيرانها لحملها على تقليص دعمها لجماعة الإخوان المسلمين التي اعتبرتها الأنظمة الملكية الأخرى الحاكمة في دول الخليج تهديداً سياسياً أساسياً. ففي الوقت الذي أعلنت فيه المملكة العربية السعودية تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، استمرت دول الخليج الأخرى في قمعها. أما في الضفة الغربية فلم تكن حماس قادرة على التلويح براية من راياتها، ولا على عقد اجتماع لمنتسبيها، ولم يكن أحد من أنصارها قادراً على إلقاء خطبة دون أن يواجه الاعتقال على أيدي القوات الإسرائيلية أو أجهزة الأمن الفلسطينية.
مع استمرار الضغوط وعدم وجود حليف قوي تركن إليه، كان هبوط غزة سريعاً. ورغم أن إسرائيل ردت على إغلاق مصر للأنفاق وتوقيفها لعبور المسافرين بإحداث زيادة طفيفة في كميات البضائع الواردة منها وفي عدد تصاريح الخروج الممنوحة للغزيين، إلا أن سياستها الأساسية لم تتغير. زاد معدل انقطاع التيار الكهربائي، وصارت فترة الانقطاع التام عن أحياء غزة تتراوح ما بين 12 إلى 18 ساعة يومياً. واضطر كل من احتاج للعلاج الطبي في المستشفيات المصرية إلى دفع رشوة تصل في بعض الأوقات إلى ثلاثة آلاف دولار حتى يتمكن فقط من عبور الحدود كلما كان المعبر من حين لآخر يفتح أبوابه لمدة يوم واحد. أدى شح الوقود إلى طوابير كانت تمتد إلى مئات الأمتار أمام محطات الوقود، وزادت وتيرة المشاجرات بين الزبائن عند مضخات الوقود. تعالت أكوام القمامة في الشوارع لأن الحكومة لم تعد قادرة على دفع تكاليف وقود شاحنات جمع القمامة. وفي ديسمبر توقفت محطات المعالجة الصحية للفضلات عن العمل وفاضت المجاري إلى الشوارع. كما ازدادت أزمة المياه حدة بسبب تلوث ما يزيد عن تسعين بالمائة من المياه الجوفية في قطاع غزة.
ولما بدا واضحاً أن المظاهرات في مصر لن تقود إلى الإطاحة بالسيسي أو إلى عودة الإخوان المسلمين، لم تر حماس أمامها سوى واحداً من أربع خيارات للخروج من أزمتها. أما الخيار الأول فهو التقارب مع إيران، الأمر الذي كان سيكلفها ما لا تطيقه، لأن ثمن ذلك سيكون الغدر بجماعة الإخوان المسلمين في سوريا وتراجع الدعم الذي تتمتع به حماس في أوساط الفلسطينيين وفي أوساط أغلبية المسلمين السنة في كل مكان. أما الخيار الثاني فهو فرض ضرائب جديدة في غزة، إلا أن هذه ما كان بإمكانها أن تعوض الإيرادات التي فقدتها الحركة بسبب إغلاق الأنفاق ناهيك عن أن مثل هذا الإجراء كان سيثير معارضة لسلطة حماس في غزة. أما الخيار الثالث فيتمثل في إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل على أمل انتزاع هدنة جديدة عساها تحسن من الأوضاع في غزة. ورود هذا الاحتمال كان سيسبب قلقاً للولايات المتحدة الأمريكية، لأنه كان سيؤدي إلى إضعاف القيادة الفلسطينية الخاملة في رام الله وإلى إعاقة محادثات السلام التي دشنها جون كيري بين الإسرائيليين والفلسطينيين في نفس الشهر الذي وقع فيه انقلاب السيسي في مصر. إلا أن حماس شعرت بأنها في وضع لا يؤهلها للجوء إلى هذا الخيار وسلوك هذا السبيل، وخاصة بسبب الدور الذي كانت تخشى أن يلعبه السيسي فيما لو تفجر الصراع من جديد بين غزة وإسرائيل. كانت حماس متأكدة من أن محادثات السلام كانت ستفشل من تلقاء نفسها. أما الخيار الأخير، والذي تبنته حماس في نهاية المطاف، فتمثل في تسليم مسؤوليات الحكم في غزة إلى أشخاص تعينهم السلطة الفلسطينية في رام الله التي تسيطر عليها حركة فتح، وذلك رغم أن حماس كانت قد تغلبت على حركة فتح في انتخابات عام 2006.
لقد دفعت حماس ثمناً باهظاً إذ استجابت تقريباً لكل مطالب حركة فتح. فحكومة السلطة الفلسطينية الجديدة لم تشتمل على عضو واحد من حركة حماس ولا على أحد من حلفائها، ولم تتغير في الحكومة الجديدة وجوه الشخصيات البارزة في الحكومة التي سبقتها. ووافقت حماس على أن تعيد السلطة الفلسطينية عدة آلاف من أعضاء الأجهزة الأمنية التابعة لها إلى غزة، وعلى أن تنشر حرسها على الحدود وفي المعابر دون أن يقابل ذلك وجود لحماس في الأجهزة الأمنية العاملة في الضفة الغربية. والأهم من ذلك هو إعلان الحكومة الجديدة أنها ستلتزم بالشروط الثلاث التي تصر عليها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون مقابل الدعم الغربي المقدم للسلطة، ألا وهي: نبذ العنف، والالتزام بالاتفاقيات السابقة والاعتراف بإسرائيل. ورغم أن الاتفاقية بين حماس وفتح تنص على امتناع حكومة السلطة عن العمل السياسي، إلا أن عباس أعلن بأن الحكومة ستطبق برنامجه السياسي. بالكاد احتجت حماس على ذلك.
وقعت الاتفاقية في الثالث والعشرين من إبريل بعيد انهيار محادثات السلام التي جرت برعاية كيري. لو أن محادثات السلام كانت تحقق نجاحاً لعمدت الولايات المتحدة إلى بذل ما في وسعها لقطع الطريق على خطوة المصالحة. إلا أن إدارة أوباما شعرت بخيبة أمل بسبب المواقف التي اتخذتها إسرائيل أثناء المحادثات، ولم تتردد في لوم إسرائيل علانية على دورها في إفشال المحادثات. هذا الإحباط دفع الولايات المتحدة نحو الاعتراف بالحكومة الفلسطينية الجديدة رغم رفض إسرائيل لها. إلا أن ذلك كان أقصى ما كانت الولايات المتحدة على استعداد لعمله، بل لقد مارست فيما وراء الكواليس الضغوط على عباس للحيلولة دون إنجاز مصالحة حقيقية بين حماس وفتح. سعت حماس إلى إعادة تفعيل المجلس التشريعي الفلسطيني المعطل منذ سنوات حتى يقوم بدور الرقابة على الحكومة الجديدة، إلا أن غالبية أعضاء المجلس التشريعي ينتسبون إلى حماس، ولذلك فقد حذرت الولايات المتحدة عباس من أنها ستحرم الحكومة الجديدة من مساعدتها المادية ودعمها السياسي إذا ما التأم المجلس التشريعي.
لم تحظ اتفاقية المصالحة بالشعبية داخل حماس، فقد تشكلت القناعة لدى أعضاء الحركة من القواعد إلى الصف القيادي الثاني بأن مشاكل ضخمة كانت ستنجم عن تلك الصفقة، مما اضطر العضو البارز في المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق إلى التوجه إلى غزة حيث مكث هناك عدة أسابيع اجتمع خلالها بكوادر حماس يستمع إلى ملاحظاتهم ويحاول إقناعهم بالحكمة من إبرام الصفقة.
كان العسكر في حماس يخشون من أن عناصر أمن فتح ستسعى إلى الثأر لقتلى الحركة الذين قضوا في القتال الذي دارت رحاه بين حماس وفتح في عامي 2006 و 2007، مما سيفجر حرباً أهلية. في نفس الوقت أرادت حماس الحصول على ضمانات بأن السلطة الفلسطينية لن توسع دائرة تعاونها الأمني مع إسرائيل ضد حماس في الضفة الغربية إلى قطاع غزة.
كما خشي عدد كبير من موظفي القطاع الحكومي، والآلاف منهم ليسوا أعضاء في حركة حماس، بأن يتعرضوا للفصل من وظائفهم أو لتخفيض رتبهم أو لحرمانهم من الرواتب. هناك من قال بأن حماس تنازلت عن كل شيء دونما الحصول على أي ضمانات من فتح بأنها ستفي بالتزاماتها المنصوص في الصفقة. وكان أحد المبررات التي ساقها قادة حماس لتوقيع الاتفاقية هو أنها كانت ستتيح للحركة التركيز على مهمتها الأصلية ألا وهي المقاومة المسلحة ضد إسرائيل.
تأكدت مخاوف نشطاء حماس بعد تشكل الحكومة، إذ لم يقتصر الأمر على أن بنود الاتفاقية لم تكن مواتية لصالح الحركة، وإنما تجاوز ذلك إلى عدم التقيد بها، ولا أدل على ذلك من عدم الوفاء بالبند الخاص بدفع رواتب موظفي الحكومة الذين كانوا يديرون شؤونها في غزة وكذلك البند المتعلق بفتح المعبر مع مصر. لسنوات والغزيون يقال لهم بأن سبب معاناتهم هو بقاء حماس في الحكم، والآن، وبعد أن تخلت حماس عن الحكم، لم تزدد أوضاعهم إلا سوءاً.
في الثاني عشر من يونيو، بعد عشرة أيام فقط من تشكيل الحكومة، أدى حدث غير متوقع إلى تغيير حظوظ حماس بشكل جذري. فقد جرى اختطاف ثم قتل ثلاثة إسرائيليين، هم طلاب في أحد المدارس الدينية في الضفة الغربية. لدى العثور على جثثهم، قام ثلاثة يهود إسرائيليين باختطاف فتى فلسطيني في السادسة عشرة من عمره من أمام منزله في القدس الشرقية، صبوا عليه البنزين وأشعلوا فيه النيران وهو على قيد الحياة وقتلوه حرقاً.
اندلعت الاحتجاجات على إثر ذلك بين الفلسطينيين في القدس وفي النقب والجليل بينما ظلت الضفة الغربية هادئة نسبياً. حملت إسرائيل حماس المسؤولية عن قتل طلاب المدرسة الدينية، وذلك بالرغم من أن عدة مسؤولين أمنيين إسرائيليين أعربوا عن اعتقادهم بأن الفاعلين لم يتلقوا أوامر من فوق.
أثناء بحثها عن القتلة نفذت إسرائيل أكبر حملة لها ضد حماس في الضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية، فأغلقت مكاتبها واعتقلت المئات من أعضائها في كافة المستويات القيادية. نفت حماس مسؤوليتها عن عملية الخطف وقالت بأن اتهامات إسرائيل لم تكن سوى ذريعة لشن هجوم جديد عليها. وكان من بين الذين اعتقلتهم إسرائيل ما يزيد عن خمسين من المساجين الأمنيين الـ 1027 الذين أطلقت إسرائيل سراحهم عام 2011 في صفقة التبادل مع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت الذي كان أسيراً لدى حماس. اعتبرت حركة حماس عمليات الاعتقال هذه انتهاكاً آخر لبنود صفقة شاليت، التي نص بعضها على الأحوال التي قد يعاد فيها اعتقال السجناء المحررين ونص بعضها الآخر على تعهدات لم تلتزم بها إسرائيل بتحسين ظروف حقوق زيارة المعتقلين الفلسطينيين الآخرين.
تعاونت القيادة الفلسطينية في رام الله تعاوناً وثيقاً مع إسرائيل في البحث عن النشطاء الذين قاموا بعملية الاختطاف الأمر الذي فقدت معه من مصداقيتها ما لم تفقده من قبل وخاصة بين أنصارها الذين يعتبر كثيرون منهم أن خطف الإسرائيليين أثبت أنه الطريقة الوحيدة الفعالة لتحرير السجناء الذين يعتبرهم الفلسطينيون أبطالاً قوميين. تظاهر السكان في العديد من مدن الضفة الغربية ضد تعاون السلطة الفلسطينية الأمني مع إسرائيل. حينما توجه أحد وزراء الأوقاف السابقين مع حراسه إلى المسجد الأقصى انهال عليه وعلى حراسه المصلون وأصابوهم بجراح استدعت دخولهم المستشفى، وحينما أرسل عباس مبعوثاً له ليزور عائلة الفتى الفلسطيني المغدور طرده الناس من المكان.
ومع انتشار الاحتجاجات في إسرائيل وفي القدس بدأ النشطاء في غزة من أعضاء الفصائل الأخرى غير حماس بإطلاق الصواريخ وقذائف الهاون تضامناً مع المحتجين. في تلك اللحظات، واستشعاراً لما اعتبره قادة حماس حالة من الضعف تنتاب الإسرائيليين كما تنتاب القيادة الفلسطينية في رام الله، أخذوا يدعون إلى تصعيد الاحتجاجات باتجاه انتفاضة ثالثة. ومع تزايد إطلاق الصواريخ، وجد قادة حماس أنفسهم ينجرون إلى مواجهة جديدة: لم يكن بإمكانهم الظهور بمظهر القامع للهجمات الصاورخية بينما يدعون الجماهير إلى انتفاضة جديدة. في السادس من يوليو رد الإسرائيليون على الهجمات الصاروخية بقصف أدى إلى مقتل سبعة من عسكريي حماس، وكان ذلك هو العدد الأكبر من القتلى الذي تتكبده الحركة منذ شهور عديدة. في اليوم التالي بدأت حماس تعلن مسؤوليتها عن إطلاق الصواريخ، وحينها أعلنت إسرائيل عن عملية الجرف الواقي.
بالنسبة لحماس لم يكن الخيار المتاح أمامها هو بين السلام أو الحرب وإنما بين الاختناق البطيء أو حرب قد تتمخض عن فرصة، رغم ضآلة احتماليتها، لتخفيف الخناق. ترى حماس نفسها تخوض معركة من أجل البقاء، وترى أن مستقبلها في غزة يتوقف على نتيجة هذه المعركة. مثل إسرائيل حرصت الحركة على وضع أهداف محدودة، أهداف يتعاطف معها جل المجتمع الدولي. الهدف الأساسي الذي تسعى حماس من أجله هو حمل إسرائيل على الوفاء بالتزاماتها الواردة في الاتفاقيات الثلاث الأخيرة: صفقة شاليت لتبادل الأسرى، بما في ذلك إطلاق سراح الأسرى الذين أعيد اعتقالهم، واتفاقية وقف إطلاق النار لعام 2012، التي تدعو إلى إنهاء الحصار المفروض على غزة، واتفاقية المصالحة التي جرى التوقيع عليها في إبريل 2014، والتي كانت ستسمح للحكومة الفلسطينية بدفع الرواتب في غزة وبنشر موظفيها في النقاط الحدودية، واستقبال مواد البناء التي يعتبر قطاع غزة في أمس الحاجة إليها، وفتح المعبر مع مصر.
هذه الأهداف ليست غير واقعية، وهناك مؤشرات متنامية على أن حماس أمامها فرصة جيدة لتحقيق بعض هذه الأهداف. فقد قال أوباما وكيري إنهما يعتقدان بأن وقف إطلاق النار ينبغي أن يكون بناء على اتفاقية نوفمبر 2012، كما أن الولايات المتحدة غيرت موقفها بشأن دفع الرواتب، مقترحة في مسودة إطار لوقف إطلاق النار قدمت للإسرائيليين يوم 25 يوليو أن يجري تحويل الأموال لدفع رواتب موظفي غزة. خلال الحرب قررت إسرائيل إن بإمكانها حل مشكلة غزة بمساعدة الحكومة الجديدة في رام الله والتي كانت قد قاطعتها من قبل. وقال وزير الدفاع الإسرائيلي إنه يأمل بأن يؤدي وقف إطلاق النار إلى نشر قوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة على معابر غزة، وبدأ نتنياهو ينعم نغمته تجاه عباس. وقريباً من نهاية الأسبوع الثالث من القتال أشاحت كل من إسرائيل والولايات المتحدة بوجهيهما جانباً بينما دفعت الحكومة الفلسطينية رواتب الموظفين في غزة للمرة الأولى. بدأ المسؤولون الإسرائيليون من كافة التوجهات يعترفون فيما بينهم بأن السياسة التي كانت متبعة تجاه غزة من قبل كانت سياسة خاطئة. جميع الأطراف التي تشارك في التوسط للتوصل إلي وقف لإطلاق النار تتحدث عن رؤيتها لترتيبات ما بعد الحرب من شأنها أن تعزز الحكومة الفلسطينية الجديدة بشكل فعال وتقوي دورها في غزة، مما سيؤدي بالتالي إلى تحسين الأوضاع في غزة ذاتها.
أما إطلاق سراح الأسرى الذين أعيد اعتقالهم فقد يكون أصعب بكثير، ولكن إذا ما استمرت الحرب وزادت احتمالات توغل بري أعمق، فإن
فرص حماس في أسر جندي إسرائيلي آخر ستتعزز. جرت أربع محاولات حتى الآن لأسر جنود وقد يكون الحظ قد حالف حماس في مرتين منهما رغم أن إسرائيل تنفي أن عملية الخطف الأولى كانت ناجحة. وبينما كان هذا المقال يعد للطباعة كانت إسرائيل منهمكة في البحث عن جندي ثان مفقود من جنودها. لا يوجد ما يمكن أن يفقد قيادة رام الله المزيد من المصداقية مثل عملية تبادل للأسرى تجري مع حماس، حتى لو كانت هذه العملية أصغر بكثير من تلك الصفقة التي أبرمت بشأن شاليت. بمجرد ما أعلنت حماس في العشرين من يوليو أنها أسرت جندياً إسرائيلياً اندفعت الجموع إلى الشوارع في غزة والقدس والضفة الغربية تحتفل وتطلق الألعاب النارية وتوزع الحلوى على المارة، إذ انبعث الأمل لدى الفلسطينيين من جديد في إمكانية تحرير أصدقائهم وأقاربهم المعتقلين في سجون الإسرائيليين في القريب العاجل.
توسعت دائرة الاحتجاجات الفلسطينية تضامناً مع غزة، وفاقت رايات حماس رايات فتح في مظاهرة انطلقت مؤخراً في نابلس، وذهبت قيادة رام الله تتبنى خطاب حماس ذاته، ولو عن غير اقتناع، وتجزل المديح لمقاومة حماس. لم تتوقف الاشتباكات في الضفة الغربية والقدس، وهي مستمرة كل ليلة تقريباً منذ بدء الحرب. وفي الرابع والعشرين من يوليو، الذي صادف ليلة القدر، شهدت نقطة تفتيش قلنديا شمال القدس أكبر تظاهرة تنظم في الضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية. تعلم حماس أنه ليس بإمكانها هزيمة الجيش الإسرائيلي، إلا أن الحرب على غزة تحمل إمكانية جائزة بعيدة المدى ولكنها مهمة: ألا وهي تحريك الضفة الغربية وتقويض قيادة رام الله وبرنامج التفاوض اللانهائي وما يترتب عليه من تواكل على الولايات المتحدة الأمريكية وحرص على إرضائها.
أثبتت حماس مرة أخرى بالنسبة لكثير من الفلسطينيين فاعلية النضال المسلح مقارنة بغيره من أوجه النضال. فالأنفاق التي كان لها دور مركزي فيما حققته الحركة من نجاحات في القتال الدائر حالياً كانت منطلقاً لشن الهجمات على الجيش الإسرائيلي المتواجد داخل غزة منذ ما قبل انسحاب إسرائيل الأحادي من القطاع عام 2005. وتشير حماس إلى سلسلة من الهجمات التي انطلقت من الأنفاق بما في ذلك التفجير المميت الذي وقع في ديسمبر 2004 تحت موقع للجيش الإسرائيلي في جنوب غزة والذي كان له دور في توجه إسرائيل نحو الانسحاب. منذ أن بدأ القتال في غزة هذا الصيف لم تعلن إسرائيل عن مستوطنة واحدة جديدة، بل أعربت عن استعدادها لتقديم تنازلات محددة استجابة للمطالب الفلسطينية - وهي بلا شك إنجازات لم تتمكن قيادة رام الله من محاكاتها عبر سنوات طويلة من التفاوض. ولذلك، سوف تساعد نتيجة القتال في تحديد معالم الطريق الذي ستسلكه الحركة الوطنية الفلسطينية في المستقبل.
العقبة الحقيقية التي تحول دون انطلاق انتفاضة جديدة في الضفة الغربية ليست كما تدعي حماس هي تعاون عباس مع إسرائيل وإنما التشتت الاجتماعي والسياسي والإذعان الفلسطيني على نطاق واسع لفكرة أن التحرير الوطني ينبغي أن يأتي في المرتبة الثانية بعد مشاريع بناء الدولة والتنمية الاقتصادية، وهي مشاريع يغلب عليها الصبغة التكنوقراطية واللاسياسية. وتلك عقبات أعظم بكثير بالنسبة لحماس. لقد عزز القتال الأخير الإحساس بالفخار لدى الفلسطينيين الذين يقولون إنهم تعودوا على الشعور بالعار بسبب الطريقة التي يتذلل بها قادتهم عند أقدام الأمريكان والإسرائيليين، ولذلك فإن إنجاز حماس ليس بالشيء البسيط.
إلا أن حماس، في نفس الوقت، خاطرت بالكثير، ويمكن أن تخسر كل شيء فيما لو أعادت إسرائيل تقييم اعتمادها منذ زمن على حماس كشرطي لغزة، وهي الإستراتيجية التي جعلتها تحافظ على حماس قوية في غزة بما يكفي لأن تحتكر استخدام القوة فيها. من مفارقات ما جرى خلال الأسابيع الأخيرة من مواجهات برية أن استعراض حماس للقوة هو نوع من المخاطرة، لأن إسرائيل قد تخلص إلى أن حماس باتت مصدر تهديد كبير، فقد بطأت حماس التوغل البري الإسرائيلي وألحقت بالقوات الإسرائيلية عشرات الخسائر، أي أكثر بكثير مما كان يتوقع معظم المراقبين. فبعد أسبوعين من بدء الاجتياح البري لم يتمكن جيش الدفاع الإسرائيلي من تجاوز الخط الأول من المنطقة السكانية المأهولة بكثافة. ولئن قررت إسرائيل دخول مراكز المدن فإن خسائرها ستتضاعف على وجه التأكيد وذلك بفضل شبكة الأنفاق الكثيفة تحت الأرض والتي لا تقود فقط إلى داخل إسرائيل وإنما إلى مختلف أنحاء غزة. خلال عملية الرصاص المسكوب في 2008-2009 توغلت إسرائيل بعمق داخل غزة ولم تفقد أكثر من عشرة جنود، أربعة منهم قتلوا خطأً بسبب نيران صديقة.
أما اليوم فقد فقدت القوات البرية الإسرائيلية ما يزيد عن ستين جندياً في الوقت الذي تبدو فيه الخسائر في صفوف مقاتلي حماس محتملة. وهذه هي المرة الأولى منذ عقود التي تجد إسرائيل فيها نفسها تدافع عن نفسها ضد جيش تمكن من اختراق حدود 1967 سواء من خلال الأنفاق ومن خلال التوغلات البحرية. والآن بات بإمكان صواريخ حماس التي تصنع في غزة الوصول إلى جميع مدن إسرائيل الكبيرة بما في ذلك حيفا، كما طورت الحركة طيارات من غير طيار مجهزة بالصواريخ. وتمكنت الحركة من إغلاق المطار الرئيسي في إسرائيل لمدة يومين. أما الإسرائيليون الذين يعيشون قريباً من غزة فقد أخلوا بيوتهم وباتوا يخشون العودة إليها منذ أن أعلن جيش الدفاع الإسرائيلي أنه لا يستبعد وجود أنفاق لا علم له بها. في هذه الأثناء فرضت الصواريخ المنطلقة من غزة على الإسرائيليين العودة إلى الملاجئ يوماً بعد يوم، بما يكشف بجلاء عن عدم قدرة جيش الدفاع الإسرائيلي على التعامل مع هذا التهديد. يعتقد بأن الحرب كلفت إسرائيل حتى الآن عدة مليارات من الدولارات.
إلا أن التكلفة الأكبر تكبدها مدنيو غزة الذين يشكلون الغالبية العظمى من الفلسطينيين الذين فقدوا حياتهم حتى لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار الذي ما لبث أن انهار في الأول من أغسطس، ويتجاوز عددهم الـ 1600 إنسان. لقد أبادت الحرب عائلات بأسرها، وجلبت الدمار لأحياء كاملة، وساوت بيوتاً كثيرة بالأرض، وقطعت التيار الكهربائي بشكل كامل وأحالت المياه إلى ما يشبه الندرة. ما من شك في أن غزة ستحتاج إلى سنين طويلة حتى تتعافى، هذا إذا قدر لها فعلاً أن تتعافى.
يبدو من غير المحتمل أن حماس ستكون جاهزة لمعركة أخرى في القريب، وبذلك تتهيأ لديها كل الحوافز للحرص على إنجاز هدفها الأساسي الآن، وخاصة فيما يتعلق بإنهاء حالة الحصار. يسعى الوسطاء إلى مساعدة شعب غزة دون أن يبدوا كما لو كانوا يقدمون النصر لحماس والهزيمة لإسرائيل. لعل مما يشغل بال إسرائيل ومصر ما سيقال عن مستقبل الإخوان المسلمين في المنطقة إذا ما راجت المزاعم بأن حماس خرجت من هذه الحرب منتصرة. أما بالنسبة لحلفاء الإخوان المسلمين، أي قطر وتركيا، فلعل ما سيشغل بالهم هو معنى الهزيمة. لقد ساعدت الرمزية المستشعرة للصراع على إطالة أمده.
يبدو للناظر أن الحل يكمن في ترك الحكومة الفلسطينية الجديدة تعود إلى غزة لتعيد بناءها. يمكن أن تدعي إسرائيل بأنها أضعفت حماس من خلال تقوية أعدائها. وستدعي حماس بأنها كسبت الاعتراف بالحكومة الجديدة وكسبت رفعاً مهماً للحصار. مثل هذا الحل كان متاحاً، بالطبع، لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ومصر والسلطة الفلسطينية خلال الأسابيع والأشهر التي سبقت اندلاع الحرب، وقبل أن تدمر حياة هذا العدد الهائل من البشر.
*
نيثان ثرول: كبير المحللين السياسيين في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لمجموعة الأزمات الدولية.
(عن "لندن ريفيو أوف بوكس"- ترجمة "عربي21")
للاطلاع على الرابط الأصلي للمقال
https://www.lrb.co.uk/v36/n16/nathan-thrall/hamass-chances