مدونات

ذكرى رابعة العدويّة في رمضان

الغيلوفي
الغيلوفي
في مثل هذه الأيام من السنة الماضية أضفنا إلى طقوس شهر رمضان المعظّم طقسًا جديدا من سُنَنِ الثورة العربيّة الكبرى، طقس مرافقة اعتصام ميدان رابعة العدوية بقاهرة المعزّ في أكناف الثورة المصريّة المصادَرَة المصابِرة. 

وقد اتخذ أنصار الشرعية المغدورة من رابعة منصّة لهم بعد أن سدّ عليهم شركاء نضال الأمس ميدان التحرير بمدرّعات العساكر المتسلّلين، واتخذوه لهم مرقصا يتدرّبون فيه على رقصات "تسلم الأيادي" تحت قيادة الفذّة الأمّ المثاليّة تهزّ وسطها الهادر على عين الشيخ علي جمعة يتعهَّدُ ورعه المحتجب تحت عمامته عن "ناس نتنة" يشوّشون خشوعه بأدعيتهم الصاخبة.

يستردّ الشيخ الجليل خشوعه بمشهد الرقص المثاليّ فيضجّ لسانه بتسبيحة لا يفقهها غير من أكل على مائدة شيخ الأزهر بحضرة البابا تواضروس الثاني.

كنّا نرافق رابعة على مدار الساعة وقد تركنا لها أمتعة الدراما وبضائع الكوميديا ومواعظ عمرو خالد وأشباهه من شيوخ "الطعام مع معاوية والصلاة خلف عليّ والجلوس على الربوة".. كنّا تركنا كلّ ذلك وشددنا رحال البصر إلى رابعة نقضي مع نزلائها شطرا من النهار.. نجد من قيظهم ما يجدون.. وندافع عنهم شمس الصيف الحارقة يشاكسونها بمياههم اللطيفة ويردّونها بتراتيل عشاياهم الخافتة.. فيبدو من نشاطهم الرمضانيّ النادر كما لو أنّهم قد أقسموا على شمسهم الفائرة أن تكون بردا وسلاما عليهم وعلى أبنائهم يسعون بين أيديهم يتدرّبون على الصمود في أكاديميّة النضال الفريدة.. أكاديميّة رابعة.. ومن رابعة صعدت روح أسماء البلتاجي ذات الــــ17 ربيعا تدلّ أترابها وأحبابها على معارج الصعود إلى مدارج الخلود..

 وكنّا نصحبهم في ترقّب الإفطار.. نقف على المنصّة مع الدكتور صفوت حجازي ننهل من "حِكَمه الحجازيّة".. وننصت إلى الدكتور صلاح سلطان يجمع في خطبه بين الثورة والعلم فنعلم أنّ من الأزهر خيرا لا ينفد ونرى له وجهين: وجها غادرا مغادرا.. موظَّفا.. اختصاصه تحسين القبيح.. فهو لا ينطق إلاّ بما يرضي وليّ الأمر المتغلّب.. ويميل إلى حيث تميل السلطة الفاسدة.. ووجها مغايرا ظاهرا على سابقه.. تعلّق بسيد الشهداء حمزة.. وجها أرادته الثورة فاستوى على سوقه.. يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الفلول....         

وعند مغربهم ننزل ضيوفا على موائدهم.. نقبل عليهم فنجد من كرمهم ما يخجلنا.. ترى  الرابعيّ يقسّم جسمَه في جسوم كثيرة.. ويحسو قراح الماء والماء بارد.. كأهل الفضل قديما.. فيكون من التقاسم المشهود مدرسة في الإيثار على الهواء مباشرة من رابعة ومرابطيها وضيوف رحمانها.. يجرّبون من حبّيها: حبّ الهوى.. وحبّ الأهلية.. تلك هي رابعة وأولئك هم ورثة حبّها المثقِل.. ومن الحبّ ما قتل..
  
وقبل صلاة القيام كنّا نلقى الدكتور محمّد البلتاجي يبشّر باتصال الثورة ويصل منها ما انفصل.. يرتق فتقها بعد أن تخلّى عنها من كانوا بالأمس منها.. محمّد البلتاجي رجل كما لا تستطيع الأسود.. يأتي الثائرين فيزرع بينهم أملا خصيبا لا تحدّه جدران السجون ولا أحكام الإعدام ولا ترهيب الأهوال في مختلف الأحوال.. يأتي يشدّ الأزر ويعلّم كيف الثورة.. يتكلّم فتردّد كلّ قنوات الدنيا كلامه.. ولقد كان لكلامه وقع على الانقلاب ظنّ أن سيشفيه منه مقتل كريمته أسماء محمّد البلتاجي كما يفعل الحاقدون العاجزون يتسربلون ن بالغدر والغيلة رغم ارتفاع حصونهم ورغم ترسانة حديدهم يجرّونها فلا ترهب من الصائمين القائمين أحدًا...

ونشهد من أمام الشاشات صلاة قيامهم.. تلك قيامتهم السائرة.. مهرجان قرآنيّ كما لم تشهد الدنيا في تاريخها المنظور.. انضباط في قيام في ركوع في سجود.. صورٌ موقَّعةٌ توقيعا معجِبًا يشدّ الناظرين.. نتعلّم ممّا نرى أنّ الإنسان موقف.. وأنّ الموقف إرادة.. ونعرف أنّ الإنسان متى اعتصم بإرادته وأجاب الواجب أتمّ بنيانه وصار إلى كونه.. بعيدا عن الأنعام التي تسعى بمناظر الإنس في بلاد طَلَبَ العسكرُ سَوْقَها إلى حتفها ملتحفة في صمتها.. فهم من قبلُ ومن بعدُ يسومونها الخسف والهوان.. رضيت الأنعام فارتدّت حسيرة وانقطعت عن الثورة..  وانتفضت رابعة وتمرّدت وشقّت عصا الطاعة مؤذنة بنهاية الطغيان في برّ مصر.. من أجل مصر وفي سبيل الأمّة قاطبة...  
 
أهل رابعة قوم يصِلُون ليهم بنهارهم في شهر الصيام.. يتآمرون بمعروف الثورة ويتناهون عن منكَرها على مرأى العالم ومسمعه.. أقبلوا إلى الميدان وقد تركوا له كلّ شيء دفاعا عن حريتهم وحرية أمتهم وقد عرفوا أنّهم مستأمنون على ثورتها ومسؤولون عن مسارها ومصيرها.. فإن هم نكصوا على أعقابهم طمعت الغربان في جولة أخرى تعلبنا فيها.. نسجا على منوال الاستعمار القاهر والطغيان الغادر من بعده.. وجهان لصفحة واحدة طلبت شعوب الأمّة طيّها ولكنّ عساكر العصر الحجريّ أعملوا نيرانهم فينا كأنّهم يتقرّبون برائحة لحمنا إلى آلهة لهم قبعت غير بعيد ترقب انقشاع الغبار لتكتب فصلا آخر من فصول مظالم الأمّة الجريحة...

 ستعود رابعة إلى الواجهة بعد أن أثخن فيها الغدر ورقصت ثعالب العهدين القديم والجديد.. ستعود هادرة وسيبلغ هديرها ميدان التحرير تطهيرا من رجس العسكر المتغلّبين وهزّ الراقصين "المتغوّلين".. سيجيء أمر الثورة من جديد باِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا.. وستسيل ميادين القاهرة بموج من البشر كالجبال.. ولن يجد عبَدَةُ الحذاء العسكريّ دبّابة  تعصمهم من الثورة.. ولن يجد الراقصون على الدماء من ينسبهم إلى أهله.. وسيشربون كلّ الأوجاع كما أُشربوا في قلوبهم السيسيّ.. ولن ينفعهم سيسيّ...
  
 وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.. بعدا للقوم الظالمين.. بعدا للقوم الظالمين...
التعليقات (0)

أهلا رمضان

29-Jun-14 08:35 AM