أكد
الفيلسوف والمفكر التونسي أبو يعرب
المرزوقي، أن التحول الوحيد الحقيقي الذي لن تستطيع الثورة المضادة تحقيقه هو التحول الخلقي والروحي لدى الشباب الثائر بجنسيه.
وأضاف المرزوقي في المقابلة التي أجريت مع "عربي21" أن الثورة المضادة تمثل الماضي رغم قوتها المادية بسبب ضعفها الروحي وفقدانها النهائي للشرعية، وأن الثورة الشعبية تمثل المستقبل رغم ضعفها المادي وفقدانها المؤقت للفاعلية.
وفيما يلي نص المقابلة:
طالبت في إحدى مقالاتك الأخيرة بالكف عن الحديث عن شيء اسمه النموذج التونسي الفريد والذكاء التونسي، على ماذا بنيت هذا الموقف الذي يكاد يكون يتيما عن الخطاب العام لدى الكثير من التونسيين والعرب اليوم؟
من المعلوم أن وحدة الأمة الروحية وقع تمزيقها بمثل هذه الخرافات التي تتكلم على مميزات زائفة لعبقريات قطرية ما أتى الله بها من سلطان.
ذلك أننا لو سلمنا بهذه الخرافة التي تجعل الشعب التونسي متميزا جوهريا عن غيره من شعوب الأمة لما بقي لوحدة الأمة الروحية من معنى، وفي الحقيقة فأنت تجد عند الحفر في دلالات هذه النزعة ما يبين أنها راجعة إما إلى محاولة إحياء ما تقدم على ما حصل من توحيد روحي بفضل الإسلام أو إلى محاولة استنبات ما تلا مما صوره الاستعمار نجاحا في تفتيت وحدة الأمة، وذلك بالذات ما يدعيه كل من يريد أن يقضي على كل شروط الاستقلال وتوطيد التبعية إذ هو يذهب حتى إلى القضاء وحدة الأقطار.
فإذا جمعت بين ما تقدم على الإسلام وما يظن متأخرا عنه في تاريخ أقطارنا آل ذلك إلى دعوة الجمع بينهما لإلغاء التاريخ الإسلامي لهذه المنطقة
المغربية. ويمثل هذا الموقف ميزة لبعض النخب المستلبة التي تريد استتباع شعوب أقطارنا إلى الهيمنة الفرنسية باسم تحرير المنطقة مما يتصورونه استعمارا عربيا، خلطا بين الإسلام والنزعات العروبية التي هي من جنس هذه النزعات: لأنها هي بدورها مؤامرة طائفية ضد الوحدة الإسلامية التي هي وحدة روحية حررت البشرية من العرقيات والطائفيات والشعوبيات.
نحن أمام خاصيات زائفة هدفها تفتيت وحدة الأمة والعودة بها إلى جاهلياتها ومن ثم إلى فقدان الحصانة الروحية. وهذا الفقدان يسهل استيعاب الاستعمار لها وجعل التبعية الروحية والحضارية أمرا ميسورا.
ومعنى ذلك أن هذه الأوهام تهدف في النهاية إلى تحقيق ما عجز عنه الاستعمار بذاته. فيصبح دعاة هذه النزعات مكلفين من قبله لتحقيق ما يريده حتى نصبح مجرد مجال حيوي لفاعلياته الحضارية.
كيف تعدد المخاطر التي تراها تحيق اليوم بالربيع العربي إجمالا خاصة في التجربة التونسية التي تعد من التجارب المتقدمة مقارنة فقط مع باقي دول الربيع الديمقراطي؟
لما كانت معركة التحرير من الاستعمار فاقدة لكل معنى إذا أبقت على القابلية للاستعمار، فإن الثورة تصبح فاقدة للمعنى إذا انتهى بها الأمر إلى الإبقاء على هذه القابلية. لذلك فهي ثورة بالجوهر متجاوزة لمجرد الشعارات الغائية: الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فهذه المطالب الغائية لا معنى لها من دون وسائلها وأسبابها. لذلك فقد فهم الشباب الثائر بالتجربة أن الاستعمار وعملاءه لا يمكن أن يمكنوا الثورة من تحقيق الشروط التي تجعل هذه الغايات قابلة للتحقيق.
وإذن فالثورة ثورة على الحوائل دون تحقيق الشروط: فمن يوحد أمم أوروبا رغم ما بينها من حروب بلغت الذروة في الحربين العالميتين وما بينها من تعدد لغوي وحضاري واجتماعي، يعمل جاهدا لتكوين نخب لا عمل لها إلا إحياء كل الحزازات التي تحول دون شرط المناعة لدينا لتفريقنا جذاذا، حتى نبقى تابعين بنيويا فلا نتمكن من الاستقلال الشارط لتحقيق ما طلبته الثورة من غايات تبين أنها تحت رحمة إرادة أجنبية بتوسط عملائها من أهلنا الذين يحكمون بالاستبداد فعليا (النخب السياسية والاقتصادية) وبالفساد رمزيا (النخب الثقافية والتربوية).
المخاطر هي إذن ما تحاول الثورة المضادة الإبقاء عليه من هذه الشروط الموطدة للتبعية والحائلة دون تحقيق أسباب المناعة المادية بتفتيت الجغرافيا (السياسية والاقتصادية) وأسباب المناعة الروحية بتشتيت التاريخ (الثقافة والتربية) من أجل جعل تونس والجزائر والمغرب إلخ... توابع لمستعمري الأمس بل وأكثر من ذلك لقاعدتهم وعملائهم في قلب وطننا: إسرائيل ومن يحتمون بها من أنظمة منطقتنا ونخبها.
كيف تنظر للتجربة المغربية من خلال تفاعلها الخاص مع الربيع العربي خاصة تجربة العدالة والتنمية الذي يقود الأغلبية الحكومية اليوم؟
التجربة المغربية مهمة على مستوى تطور مؤسسات الحكم. وهو تطور دستوري يمكن أن يكون في الغاية مسارا يحقق مطالب الثورة من حيث الحقوق السياسية المباشرة (الجيل الأول من حقوق الإنسان)، وهي مرحلة مهمة في تطور الأمم. لكن ذلك لا يحل المشكل الذي تعاني منه الأمة: التبعية وقابلية الاستعمار. فالمغرب رغم حجمه المحترم وقدراته البشرية والمادية يبقى مع ذلك غير قادر على التعامل الندي مع الضفة الشمالية إذا بقي في حدوده القطرية.
وأعلم أن النخب المغربية بما فيها النخب الحاكمة ليست غافلة عن ذلك. وهذا يطمئن كل من يريد ألا يجعل معركة النهوض كما تصورتها الانقلابات العسكرية الفاشية في القرن الماضي، معركة تغيير أنظمة الحكم من ملكية إلى جمهورية أكثر استبدادا. بل المطلوب هو تغيير قواعد عمل الأنظمة ملكية كانت أم جمهورية: فالمغرب رغم كونه ملكيا فهو أكثر ديمقراطية من كل الأنظمة التي تسمي نفسها جمهوريات بل وشعبيات.
إن بلوغ النظام المغربي سن الرشد دلالته الواضحة هي عدم خوفه على نفسه من إشراك كل الألوان السياسية في الحكم، فذلك زاده قوة وقدرة على تحقيق الاستقرار وضمان المستقبل.
إذا جاز تسمية ما حدث بمختلف الدول التي شهدت تفاعلات بمستويات مختلفة مع الربيع العربي تحولا سياسيا، ألا تعتبر أن التحولات الكبرى لا تتم إلا بثورة ثقافية تمتد للعقول ووجدان الناس؟
في الحقيقة لم يحدث تحول سياسي إذا اقتصرنا على سطح الأحداث. فالقوى السياسية الجديدة لها الإرادة دون القدرة. والقوى السياسية الفاعلية هي قوى الثورة المضادة التي ما تزال بيدها مقاليد الحكم المادية سياسية كانت أم اقتصادية (الإدارة ورأس المال وأجهزة الأمن والدفاع) ومقاليده الرمزية (الثقافة والإعلام وأهم مؤسسات المجتمع المدني بيدها إذا ما استثنينا المساجد).
والتحول الوحيد الحقيقي الذي لن تستطيع الثورة المضادة تحقيق ما تسعى إليه من ردة ضده هو التحول الخلقي والروحي لدى الشباب الثائر بجنسيه. لذلك فالثورة المضادة تمثل الماضي رغم قوتها المادية بسبب ضعفها الروحي وفقدانها النهائي للشرعية. والثورة تمثل المستقبل رغم ضعفها المادي وفقدانها المؤقت للفاعلية. فالأولى يخنقها الشيوخ الذين بلغوا أرذل العمر. والثانية يحركها شباب في ريعان العمر.
وهذا الفرق الكيفي هو الذي يمكن الاعتماد عليه للقول، إن الثورة الثقافية أخذت طريقها إلى التغيير الجذري. وتلك هي علة تفاؤلي. لكن ذلك لا يعني أن المعركة ستكون سهلة. فقد يسيل دم كثير.
أي مستقبل تراه للوضع في ليبيا مع بداية بروز نفس المؤشرات التي سبقت الانقلاب على الشرعية في مصر قبل سنة من الآن؟
إذا بقي الليبيون بمفردهم، فإن ما جرى في مصر سيجري في ليبيا وبعدها في تونس. لذلك فمسؤولية المغرب كبيرة وكبيرة جدا. ذلك أن الحلف بين العسكر في المغرب العربي واتباع سياسة السيسي بتحويل الجيوش العربية إلى جيوش احتلال لشعوبها ضحيته المقبلة لا قدر الله هي المغرب عن طريق الصحراء.
إذا تمكن حفتر والسيسي ومن يماثله في الجزائر، فإن الهدف هو خلق شروط منع التقدم الحاصل في بقية دول المغرب، أعني تونس والمغرب الأقصى. ذلك أن موريتانيا هي بعد من نفس الجنس إذ يحكمها العسكر.