كتاب عربي 21

بورقيبة يعود من جديد

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
عاد بورقيبة من جديد ليحتل مكانة بارزة في وسائل الإعلام وفي أحاديث التونسيين. أما المناسبة فهي حلول الذكرى الرابعة عشر لوفاته. وهي ذكرى كان يمنع إحياؤها شعبيا في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، فإذا بها تتحول بعد الثورة إلى فرصة للاستثمار الحزبي، وتغذية الجدل الأيديولوجي، واستحضار التجربة التاريخية لبناء الدولة الوطنية.

عندما توفي الحبيب بورقيبة في البيت الذي كان مقر إقامته الجبرية منذ أن تم إخراجه عنوة من قصر قرطاج في فجر السابع من نوفمبر 1987، تحولت جنازته إلى فخ لبن علي، الذي عمل جاهدا على إخفائها عن الشعب، وحاول أن يحاصر الرجل حتى وهو جثة ينقل إلى مثواه الأخير. لقد تم منع وسائل الإعلام الأجنبية من التنقل إلى مدينة المنستير التي ولد فيها بورقيبة وأقام بها قبره إلى جانب أفراد أسرته. كما صدر قرار بمنع التغطية الإعلامية الرسمية، وبدل أن يتم نقل وقائع الجنازة التي حضرتها بعض الشخصيات العالمية، بث التلفزيون المحلي شريطا وثائقيا عن الحيوانات والأسماك.

كان الرئيس السابق يخاف من بورقيبة الذي كان له الفضل في تعليمه وترقيته عبر مختلف مراحل مسيرته العسكرية والسياسية وصولا إلى تعيينه وزيرا أول، فكان جزاؤه الانقلاب عليه، ووضعه في قفص ذهبي. 

صمد بورقيبة طيلة ثلاثة عشر عاما، تألم خلالها طويلا، ولا يعود ذلك فقط إلى الاغتيال السياسي الذي تعرض إليه في نهاية مسيرته، ولكنه أيضا بسبب تنكر أقرب الناس إليه، حيث انقطع الجميع عن زيارته أو السؤال عنه، وذلك إما خوفا من بطش خليفته، أو اعتقادا من هؤلاء بأن الرجل قد أصبح جزء من الماضي بعد أن فقد ملكه وتوارت هيبته. لم يكن يزوره في تلك الأيام القاحلة سوى ابنه، وأحيانا تلميذه المخلص محمد الصياح الذي كان المرشح للوزارة الأولى، وعدد آخر قليل جدا ممن كانوا أحيانا يتشجعون ويتقدمون بطلب زيارته.

بعد الثورة عادت للرجل مكانته في الذاكرة الجماعية، وكثر الذين يتحدثون باسمه، ويستثمرون رصيده السياسي، ويقدمون أنفسهم حماة لتراثه، وامتدادا لما يعتبرونه " الفكر البورقيبي" فالدستوريون الذين انقلب الكثير منهم ليصبحوا جزءا من حزب " التجمع " الذي صاغه بن علي، أحسوا باليتم السياسي بعد أن رحل صاحب انقلاب 87، فهرعوا إلى شخصية مؤسس الدولة عساه يعيد لهم الاعتبار، ويجعل منهم أصحاب " رسالة " بدل أن يكونوا محل متابعة ومحاسبة.

أما الإسلاميون فقد ظنوا بأن بورقيبة قد انتهى بعد الثورة وتبخرت ذكراه. وكان في مقدمة هؤلاء رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي رفض الترحم على بورقيبة في حوار أجرته معه قناة الجزيرة. وهي أول صعقة هزت عددا واسعا من التونسيين الذين يعتقدون بأن الخلاف السياسي لا يمكن أن يؤدي إلى رفض الترحم على الميت. 

القضية كانت أكبر من ذلك، لأن خلاف الغنوشي مع بورقيبة لا يقف عند الجانب السياسي فقط، ولكنه يمتد ليشمل الجوانب العقائدية والثقافية. بورقيبة عند الغنوشي كافر دينيا لا يجوز الترحم عليه، وهو ثقافيا معادي للإسلام وخادم للغرب. ولم تحصل هذه القطيعة بسبب سجن الغنوشي مرتين في عهد بورقيبة، وكاد أن ينفذ فيه حكم الإعدام، ولكن القطيعة أقدم من ذلك، حيث بدأت منذ أن تأثر الغنوشي وهو طالب بالفكر الناصري قبل أن يتشرب الخطاب الحركي للإخوان المسلمين. ولهذا عندما يتحدث الغنوشي عن المرحلة السابقة لا يميز بين حقبتي بورقيبة وبن علي، وإنما يعلق عليهما بالقول " رحيل المخلوعين "، بحكم أن الأول تم خلعه عن طريق الانقلاب، والثاني عن طريق الثورة.

هذا الموقف كلف كثيرا حركة النهضة، خاصة بعد أن قذفت سيارة رئيسها بالحجارة عند محاولة تنظيم اجتماع له بمسقط رأس بورقيبة. وقد اضطرت الحركة تدريجيا إلى تعديل موقف زعيمها من خلال تأكيد العديد من قادتها على أن بورقيبة شخصية محترمة، وزعيم للتونسيين، رغم اختلافهم معه على الصعيد السياسي. وهو ما دفع بالغنوشي مؤخرا إلى بلورة صيغة عامة تتضمن إيحاء بنوع من الترحم على الرئيس بورقيبة، وذلك ضمن سلسة من تحول مواقف رئيس النهضة في الفترة الأخيرة. فهو لم يكن يتوقع أن بورقيبة بعد كل هذه السنوات، لا يزال يحظى بشعبية واسعة بين التونسيين.

المسألة تتجاوز الأساليب التكتيكية التي تحتمها الأوضاع المرحلية التي تمر بها تونس من جهة وحركة النهضة من جهة أخرى. إذ هناك خلاف عميق بين عموم الإسلاميين وخصومهم حول تقييم مرحلة بورقيبة، هل هي خطة إلى الأمام أم انتكاسة إلى الخلف، وشتان بين اعتبارها قد حققت نقلة نوعية ضخمة في مسيرة البلاد، وبين وصفها بكونها تجربة منبتة ومقطوعة عن تاريخ البلاد. وما لم يحسم هذا الخلاف بشكل جدي وجوهري، فإن الصراع مرشح للاستمرار بين الطرفين.

ولهذا اعتبر الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي الذي استقال من حكومة حمادي الجبالي ومن عضوية المجلس التأسيسي احتجاجا على أسلوب إدارة المرحلة الانتقالية من قبل حركة الإسلام السياسي، اعتبر أن البلاد اليوم " تحتاج إلى صلح فكري بين بورقيبة والثعالبي  "، وأن هذا التقارب هو شرط نجاح الثورة ، مشيرا بالخصوص إلى أن  " تحالف حركة النهضة وحزب نداء تونس هو في مصلحة تونس ". 
0
التعليقات (0)