مكتبتي مليئة بالكتب التي تتحدث عن الحركات الإسلامية، كتب أكاديمية غربية، بعضها انتهى وقتها، فللكتب حياة كحياة البشر، تعيش طفولتها وشبابها وشيخوختها ثم تموت، وبعضها تبقى لعمر أطول، وبعضها تعمر كما عمر نوح، تبقى بيننا بحيويتها وشبابها وكأنها شربت من نبع الحياة، فهي لاتشيخ ولا تموت، يقرأها جيل بعد جيل وكل جيل يرى فيها نفسه، فتعيش، هكذا قدر لها.
وأخرى تحكي تجارب شخصية كتبها معتقلون سابقون في سجون عبد الناصر، وأخرى تتحدث عن المرأة في الإسلام، وقفت أمام النقاب متسائلا مستفسرا، ثم بحثت عنه في الكتب حتى خرجت بما أنا مقتنع به ولست أخاصم الآخرين عليه، وعن الحياة، كيف يجب أن تكون نظرتنا لها؟ وعن الموت وانتظاره، استهوتني كتب الرقائق، وجدت بها طمأنة لقلبي في مرحلة من حياتي.
استغرقت في كتب الشيخ محمد أحمد الراشد التي وجدت فيها لغة لم أقرأها من قبل، لغته راقية، قوية، ثابتة، مقنعة، تقودك إلى حيث يريد مستسلما لها، فللغة الجميلة تأثير السحر، تسحرك، فتجد نفسك محترما دورها، بقلم ينحت الورق ليشكل منه تحفة فنية راقية قلما تجدها في أقلام الآخرين، وسحت مع الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته وكتبه التي كتبها بروحه قبل قلمه، وقلبه قبل عقله، فإن كتابيه "رجال من التاريخ" و"قصص من التاريخ" ما زالا في ذاكرتي، وقد حفرا مكانهما في عقلي وبقيا فيه، وما زلت أعتبر نفسي من تلاميذه مع أنني لم أقابله في حياتي. بحثت عن كتبه في كل مكتبه دخلتها، مذكراته مليئة بالعبر والتجارب، هي حياة مروية بعقل واع، فقد أدمنت أسلوبه وعشقت قلمه.
كنت أستمع لبرنامج "قول على قول" في قناة الـ"بي بي سي" حين كانت تهتم بالأدب والتاريخ، وعندما كانت لغتها العربية رصينة قوية تفرض موسيقاها على أذن السامع، وكنت مدمنا على برنامج "من القائل"، حتى حصلت على مجلداته بعد ذلك وقرأتها كلها مستمتعا بها وكأني وقعت على كنز.
قرأت للشيخ الغزالي، فهو صاحب قلم مقاتل بعكس شخصيته الهادئة الوديعة، وقفت في شبابي أمام كتاباته متسائلا، مستفسرا، باحثا، ولكنه أقنعني.. عندما تقرأ له بدون أحكام مسبقة تجد أنه يكتب بعقله، ويضع قدمه حيث لم يتجرأ أحد على أن يسير، يكتب بأسلوب المحب الوجل، الذي تشعر بحبه لك يتقاطر بين السطور.
وقرأت لجدي، والد والدتي، الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، وعليّ أن أعترف بأنني لم أقرأ له إلا بعد وفاته رحمه الله، فقد كان سلفيّ العقيدة، حرّ الرأي، لم يلزم نفسه برأي لم يلزمنا الشارع به، فالعادة عنده غير مقدسة، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر، هكذا كنت أشعر به في صغري. يصدح مجلسه مساء بمن يقرأ له من كتب يحب أن يستمع إليها، وفي الأعياد والمناسبات كان مجلسه عامرا بشخصيات كنت أتأملها صغيرا، شخصيات تمثل الأديان المختلفة بلباسها الديني، كان يرحب بها ويتحدث معها باحترام، تعلمت في مجلسه أن كل الأديان يجب أن تحترم، فالناس أحرار بما يريدون أن يعتقدوه. لم يكن يسفه رأي أحد، بل كانت حجته مكتوبة لمن أراد أن يرجع إليها. وبعد وفاته تصفحت كتبه وأعجبت بمواقفه التي دافع عنها بكل قوة في وجه من خالفوه. حاولت أن أكتب عنه ولكن قلمي لم يطاوعني حينها، فقد كنت أرى وجهه يطل عليّ في كل صفحة، وكان فقده حديثا حينذاك، فآثرت التوقف، فلمحبيه أقلام كثر قد يسعفونني بما لم أتمكن منه.
وفي واشنطن أهداني خالي كتاب العقد الفريد، فقرأته ثم حصلت على سلسلته بعد أن عدت إلى الدوحة، ولم أجد ماهو أجمل منه لزيادة الحصيلة اللغوية والمعرفية، فهو عقد بلآلئ متنوعة، وكل لؤلؤة لها شكها الفريد الخاص بها، ولم أكن أتوقع أنني سأتعرف على العقد في واشنطن العاصمة !!
أتساءل أحيانا، إن اقتحم مكتبتي ثلة من عناصر المخابرات، فبماذا سيخرجون؟ وكيف سيكتبون تقريرهم؟ ففيها كل الكتب التي ذكرت سابقا، وفيها كتب للروائيين الروس مثل ليو تولستوي وغيره، فهل أنا من معارضي الثورة البلشفية؟ وفيها كتب عن أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي وغيره، فأنا معجب بهم، نعم بالحمقى والمغفلين، فهم يضيفون طعما إلى حياتنا، وما يقومون به يضحكنا ويسلينا ويخرجنا من تلك السياسة الغامضة الجامدة، إلى سياستهم المضحكة المبكية التي نعيشها هذه الأيام .