"الحرب التي تشن على الإسلاميين اليوم في العالم العربي هي نفس الحرب التي تشن على الديمقراطية وعلى مبدأ المشاركة في السلطة"
في شباط/ فبراير من عام 1993، بعد ما يقرب من عام على إجهاض المسار الديمقراطي في الجزائر من قبل العسكر، نظمت أول مؤتمر لي. كنت حينها باحثاً في مركز دراسات
الديمقراطية التابع لجامعة ويستمنستر في لندن، والذي التحقت به في أيلول/ سبتمبر 1992 للتحضير لرسالة الدكتوراة، وكان الموضوع الذي نويت البحث فيه هو العلاقة بين الإسلام والديمقراطية. كان المؤتمر جهداً مشتركاً بين مركز دراسات الديمقراطية في الجامعة ومنظمة طوعية غير حكومية اسمها "الحرية للعالم الإسلامي"، كنت أحد مؤسسيها بعيد الانقلاب على الديمقراطية في الجزائر بهدف توعية الرأي العام الغربي بمخاطر السكوت على ما ارتكب من عدوان على حق الشعب الجزائري في اختيار من يحكمه بحرية.
وكانت الفكرة من المؤتمر استضافة عدد من المفكرين والنشطاء السياسيين الإسلاميين وكذلك عدد من الأكاديميين والإعلاميين الغربيين للتحاور حول مدى استعداد الإسلاميين للمشاركة في السلطة واستعراض تجارب من فعل ذلك منهم حتى ذلك الوقت.
حظينا من الجانب الغربي بعدد من كبار الأكاديميين على رأسهم الأستاذ الدكتور جون كين، الذي كان حينها مدير مركز دراسات الديمقراطية بجامعة ويستمنتسر وكان المشرف على أطروحتي، والأستاذ الدكتور إيرنيست غلينر، والذي كان حينها أستاذ الأنثتروبولوجيا بجامعة كامبريدج، والأستاذ فرانسوا بورغا، الذي كان حينها كبير الباحثين في المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية ويتخذ من القاهرة مقراً له.
من الجانب الإسلامي شارك معنا الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية، والدكتور حسن العلكيم أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات، والدكتور عبد الله العكايلة عضو البرلمان الأردني في ذلك الوقت عن كتلة الإخوان المسلمين، والدكتور ناصر الصانع عضو البرلمان الكويتي، ومصطفى علي القيادي في الحزب الإسلامي الماليزي وعضو البرلمان السابق، وكمال الهلباوي الذي كان ما يزال حينها يعمل في القسم العربي التابع لمعهد دراسة التوجهات السياسية في إسلام آباد بالباكستان، ورشيد بن عيسى المفكر الجزائري المقيم بفرنسا وأحد تلاميذ مالك بن نبي رحمه الله.
فيما بعد حررت الأوراق التي قدمها هؤلاء الضيوف بالإضافة إلى أوراق أخرى وردتنا من من أساتذة ونشطاء لم يتمكنوا من الحضور للمشاركة في المؤتمر، كان منهم الدكتور عصام العريان. صدرت الأوراق في كتاب باللغة الإنجليزية عنوانه Power-sharing Islam ثم عربت وصدرت في كتاب عنوانه "مشاركة الإسلاميين في السلطة" وكلاهما من منشورات منظمة الحرية للعالم الإسلامي Liberty for the Muslim World.
طوال تسعينيات القرن الماضي، كنت والعديد من زملائي الإسلاميين في بريطانيا وفي غيرها من دول المنظومة الغربية نجتهد وسعنا من خلال التواصل مع وسائل الإعلام والمنتديات الفكرية والمعاهد الأكاديمية المختلفة لتوضيح مواقف الإسلاميين للرأي العام الغربي وإثبات أن الحركات الإسلامية السياسية المعتبرة لم تقبل فحسب بالانخراط بالعملية الديمقراطية وبصناديق الاقتراع حكماً بينهم وبين منافسيهم على قلوب وعقول الناس بل وقبلوا أيضاً بمبدأ المشاركة في السلطة مع المكونات السياسية الأخرى في المجتمع بما في ذلك النخب الحاكمة إذا ما أبدت استعداداً لفتح أنظمة الحكم التي تهيمن عليها أمام الآخرين والتوقف عن احتكار السلطة.
وكانت أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن العشرين قد شهدت فشل عدد من تجارب المشاركة في السلطة في العالم العربي. ففي مصر شارك الإخوان المسلمون من خلال ائتلاف مع حزب العمل في
الانتخابات التشريعية التي جرت في نيسان/ أبريل 1987، وفي تونس شاركت حركة النهضة في انتخابات نيسان/ أبريل 1989، وفي الأردن شارك الإخوان المسلمون في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، وفي الجزائر شاركت جبهة الإنقاذ وعدد من الأحزاب الإسلامية الأخرى في انتخابات كانون الأول/ ديسمبر 1991. في مصر، وكالعادة، حصل تلاعب وزورت النتائج لصالح حزب الديكتاتور حسني مبارك. وحينما رفعت شكاوى أمام المحكمة الدستورية العليا حكمت المحكمة في التاسع عشر من أيار/ مايو ببطلان الانتخابات وعدم دستورية البرلمان. وبدلاً من إعادة الانتخابات اتخذ مبارك قراراً بحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة بقانون انتخابي يحابي حزبه، فما كان من خيار أمام الأحزاب السياسية الأخرى سوى المقاطعة. وفي تونس زورت الانتخابات وتم التلاعب بنتائجها التي كانت تشير مبدئياً إلى فوز ساحق لحركة النهضة، التي ما لبثت أن حظرت وطورد أعضاؤها وأنصارها، فانتهى المطاف بكثيرين منهم وراء القضبان أو في المهجر. وفي الأردن، وبعد أن فاز الإخوان المسلمون باثنين وعشرين مقعداً من أصل ستة وعشرين نافسوا عليها، سارع النظام إلى تجهيز تشريع بمسمى قانون انتخابات صمم لكي يحول دون تمكين الإسلاميين من تحقيق فوز مشابه في أي انتخابات قادمة. وأما في الجزائر، فهناك كانت الطامة الكبرى. ما أن أعلن رسمياً عن فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجولة الأولى للانتخابات، وقبل حلول موعد الجولة الثانية، سارع العسكر للانقلاب على المسار الديمقراطي ودفعوا بالبلاد في أتون حرب أهلية طاحنة استمرت ما يقرب من عقد من الزمان وأودت بحياة ما لا يقل عن مائة ألف من أبناء الجزائر.
لا ترى الحركات الإسلامية السياسية الأساسية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، بديلاً عن النضال السلمي للانتقال ببلاد العرب من الدكتاتورية إلى الديمقراطية. ورغم أن الإسلاميين بشكل عام هم ضحايا كافة عمليات السطو على خيار الشعب وإجهاض التحولات الديمقراطية في المنطقة إلا أنهم يتعرضون باستمرار لأشد حملات التشويه من قبل الأنظمة الاستبدادية والنخب العلمانية المتحالفة معها. يثير هؤلاء المهاجمون الشكوك حول مدى إخلاص الإسلاميين للديمقراطية والتزامهم بمبادئها وقيمها، ويتحججون بمختلف الحجج حين يثيرون مثل هذه الشكوك. وطالما اتكأ الكتاب والمعلقون العلمانيون في الشرق والغرب، والذين يقدمون أنفسهم في العادة على أنهم خبراء فيما يسمونه "الإسلام السياسي" – وكانوا من قبل طوال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين يسمونه "الأصولية الإسلامية"- على قائمة طويلة من الشبهات حول مواقف الإسلاميين من حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأقليات والحريات المدنية وأحكام الشريعة الإسلامية و الحدود، والتسامح الديني والتعددية والمساواة، والعلاقة مع الغرب، إلخ..
ومن أكثر ما يستخدم ذريعة لدعم الإجراءات التقييدية والسياسات القمعية التي تتبناها الأنظمة الاستبدادية لإعاقة التحول نحو الديمقراطية هو الادعاء بأن الإسلاميين إذا ما فازوا في الانتخابات فلن تكون بعدها انتخابات. وهذه هي نفس الذريعة التي اتكأ عليها السياسيون والمعلقون الفرنسيون وهم يهللون ويصفقون بينما راحت دبابات العسكر وبساطيرهم في الجزائر تسحق صناديق الاقتراع وتدوس على إرادة الشعب في 1992، وهي اليوم نفس الذريعة التي يتكئ عليها أنصار الانقلاب والمهللون له في مصر وكذلك المتربصون بالربيع العربي من المحيط إلى الخليج.
في مثل هذه الأجواء انعقدت ندوة "مشاركة الإسلاميين في السلطة" في مركز دراسات الديمقراطية بجامعة ويستمنستر عام 1993. ولكم أجهضت تجارب وزورت انتخابات منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، وما ذلك إلا لأن التحول نحو الديمقراطية كان يؤذن بتحرير السلطة من قبضة النخبة المحتكرة لها، وينذر بذلك بتغيير الوضع القائم الذي كانت ترى فيه القوى المتنفذة محلياً وإقليمياً ودولياً الظرف الأنسب لمصالحها.
لم يبق في جعبة الشعوب بعد عقود من البطش والاضطهاد سوى أن تثور على الوضع القائم لتغير بنفسها وتنجز ما عجزت عن إنجازه الحركات الإسلامية المنظمة. وجاء رد الشعوب العربية بعد أن طفح بها الكيل، فانطلقت دونما تخطيط مسبق من أي حركة أو حزب أو تنظيم الانتفاضة الشعبية العفوية التي أشعل شرارتها محمد البوعزيزي في تونس في كانون الأول/ ديسمبر 2010 ثم انتقلت عبر الحدود وعبر الأثير إلى مصر ثم إلى اليمن وليبيا وسوريا، فأسقطت طغاة، وراحت تهدد صروح وعروش من تبقى من طواغيب في الساحة العربية. لم يطل بأنظمة الحكم وبالنخب العلمانية المقام حتى أدركوا أن التيارات الإسلامية تلقفت الثورات العربية كما لو كانت منحاً ربانية، فالشعوب العربية التي سئمت ظلم الأنظمة الحاكمة وزخمت أنوفها رائحة الفساد المستشري في مفاصلها ولم يعد ينطلي عليها كل ما رفعته من شعارات "نبيلة" لتحقيق غايات وضيعة لم تر أهلاً لثقتها سوى تلك الحركات الإسلامية التي طالما ضحت وبذلت وخدمت وكابدت في سبيل ذلك وآثرت. ورغم أن الشعوب كانت تواقة للتغيير السريع ولإقصاء من أذلوها وأذاقوها الأمرين إلا أن الإسلاميين وخاصة المنتسبين منهم إلى المدرسة الإخوانية كانوا يفضلون تغييراً تدريجياً وانتقالاً سلسلاً من حكم الفرد إلى حكم الشعب وذلك عبر صيغة "المشاركة في السلطة".
ما انتفضت الشعوب العربية وثارت إلا من أجل استعادة حريتها وكرامتها، وكان يمكن أن يتحقق ذلك بشكل سلمي وبلا آلام ودونما عنت أو إقصاء لو احتكم الجميع إلى صناديق الاقتراع. وأثبتت الأيام صدقية ذلك أو كادت، لولا أن نتائج الاقتراع الحر أفزعت خصوم الإسلاميين وأنزلت الرعب في قلوبهم، ولم يكن هؤلاء الخصوم بلا معاول، وقد توزعوا على فئات ثلاث: نخب علمانية - ليبرالية واشتراكية – تعادي الإسلام وأهله ولا ترى إمكانية للتعايش مع الإسلاميين في ظل نظام حكم يتصدى لإدارته هؤلاء الإسلاميون، ومجموعات ارتبطت مصالحها بمصالح أولئك الذين أحكموا السيطرة على مؤسسات الدولة عبر عقود – أو ما بات يعرف فيما بعد بالدولة العميقة، وقوى إقليمية ودولية لديها قناعة راسخة بأن صعود الإسلاميين إلى السلطة لن يكون أبداً لصالحها. وضع هؤلاء جميعاً ثقتهم بالعسكر الذين انقضوا على العملية الديمقراطية وأنشبوا فيها مخالبهم وأنيابهم، وراحوا يفترسون الإسلاميين نيابة عمن وكلهم ومولهم ووفر لهم الغطاء.
إن الحرب التي تشن على الإسلاميين اليوم في معظم أرجاء العالم العربي إنما هي الحرب على الديمقراطية ذاتها وعلى مبدأ "المشاركة في السلطة". واليوم، يقف الإسلاميون في مصر وفي غيرها من بلدان المنطقة في صف الريادة نضالاً في سبيل استعادة الديمقراطية ودفاعاً عن إرادة الشعوب المسلوبة، بينما يقف خصومهم العلمانيون في خندق العسكر وفي صف الأنظمة التي نكلت بالشعوب وعاثت في الأرض فساداً، يمدون أيديهم بلا ورع ولا حياء يتسولون الفتات الذي يلقي به إليهم حكام الإمارات والسعودية الذين لم يعودوا ينعمون بنوم هانئ منذ أطلق البوعزيزي شرارة الانتفاضة العربية الكبرى. ولعل من عجائب الدهر أن كل ما كان العلمانيون يدعون بأن الإسلاميين إذا جاءوا إلى السلطة فسوف لن يحترموه من قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات المدنية ومبادئ المشاركة في السلطة، أصبحوا هم – أي العلمانيون – الأكثر انتهاكاً له ودوساً له بأقدامهم.
بل إن من عجائب الدهر أن يصبح الإسلاميون هم رأس حربة النضال من أجل الديمقراطية.
(عن: موقع الجزيرة الانكليزية)