في تقييم الحالة الجهادية التي نتابع تطوراتها منذ عقد ونيف، يمكن القول إن البعد السياسي في سلوك فروعها يبدو أكثر إثارة للجدل من سلوكها الميداني، رغم أن هذا الأخير أثار، ولا زال يثير الكثير من الجدل، لجهة مشروعية ما ينفذ باسمها من أعمال عسكرية وتفجيرية في عدد كبير من المناطق في العالم العربي والإسلامي.
وهنا تحديدا يجدر بمن تعنيهم هذه الظاهرة أن يرجعوا إلى الكثير من رسائل القاعدة وقادتها، قبل اغتيال أسامة بن لادن وبعده، لاسيما تلك الوثائق التي وجدت في مكان اغتياله في "أبوت أباد"، وما انطوت عليه من نقد قاسٍ لكثير من العمليات، لاسيما التوسع في مسألة التترس، فضلا عن استهداف غير المحاربين من الناس لاعتبارات طائفية أو سياسية، والأهم من ذلك، ما انطوت عليه من نقد فيما خصّ عدم تقدير المصالح والمفاسد في الجهد العسكري، لاسيما أن جهدا كهذا دون بوصلة سياسية صائبة غالبا ما يتحول إلى عبء، وقد يجلب أضرارا كبيرة.
على أن الأهم من ذلك كله هو البعد السياسي. كانت فكرة أسامة بن لادن إذا جاز لنا اعتباره الأب الروحي لفكرة
السلفية الجهادية بطبعتها الأخيرة، تقوم على مواجهة "العدو البعيد"، أو "رأس الكفر"، وتكبيده خسائر ردا على عدوانه على الأمة في فلسطين، وبسبب دعمه للأنظمة الفاسدة (تبنى بن لادن مشروعا إصلاحيا في السعودية قبل المرحلة الأفغانية الأخيرة)، ومن ثم تطور الأمر إلى محاولة توريط ذلك العدو في صراعات مكلفة، كما كان الحال في أفغانستان والعراق، وهي الإستراتيجية التي نجحت إلى حد ما، بدليل تراجع القوة الأمريكية بشكل لافت عما كانت عليه قبل 11 أيلول.
قبل السياق المذكور إثر تأسيس قاعدة الجهاد، كانت فكرة السلفية الجهادية، أو الجهادية دون طابع سلفي دائما تقوم على نصرة المستضعفين من المسلمين حيث كانوا دون التدخل تاليا في مسارهم السياسي، كما حصل في أفغانستان والفلبين والبوسنة والشيشان.
لكن المشهد القاعدي، أو السلفي الجهادي ما لبث أن أخذ يتدحرج بطريقة مختلفة بعد ذلك، إذ بدأ يظهر في أكثر من بلد عربي تاركا العدو البعيد، ومنشغلا بالعدو القريب، بمعنى العودة إلى فكرة الجهاد العسكري ضد أنظمة معينة، بهدف إسقاطها وإقامة دولة الشريعة بحسب ما يفهمها أهل هذا التيار. وبذلك أصبح أقرب في جوهره إلى فكرة الثورات العسكرية التي شهدتها مناطق عدة من العالم خلال العقود الماضية في إطار يساري أو شيوعي في أغلب الأحيان (ينطبق ذلك على محاولة إسقاط النظام السوري من قبل الإخوان، والنظام الجزائري مطلع التسعينات).
المشكلة الأكبر التي واجهت هذا التيار في طبعته الأخيرة هي تبسيطه لمسألة التغيير على نحو مخل، وتجاهله العامل الخارجي برمته، واعتباره هامشيا إلى حد كبير، في وقت يعلم فيه الجميع أنه الأكثر تأثيرا في السياق.
كان المشهد يقول إن بعض القائمين على هذا التيار باتوا مقتنعين بقدرتهم على استخدام الجهد العسكري في إطاحة أنظمة معينة وإقامة بديل عنها، بصرف النظر عن العامل الخارجي، وهو ما وقف مثلا خلف إقامة الدولة الإسلامية في العراق مثلا، وتاليا في الشام، وهو ما وقف خلف نشاط حركة الشباب المجاهدين في الصومال، وكذلك حال القاعدة في اليمن وفي المغرب الإسلامي، بل حتى في باكستان نفسها.
يتناسى هؤلاء أن
طالبان مثلا لم يكن بوسعها أن تعيش كدولة لبعض الوقت لولا الدعم الباكستاني، وكذلك الرضا الأمريكي في بعض الأحيان، بدليل أن حوارات كانت تجري بين حكومة طالبان والأمريكان قبل هجمات الحادي عشر من أيلول، والتي يختلف كثيرون حول علم الملا محمد عمر بها.
والحال أن أية ثورة عسكرية لا يمكن أن تنجح ابتداءً دون حاضنة شعبية، ودون مدد خارجي، وسيعتمد الجزء التالي من المشهد على ما يعلنه الثوار في حال انتصارهم من سياسات، إذ ليس بالضرورة أن يقبل من دعموا الثورة أثناء فعلها، بما اختاره الثوار لمسارهم السياسي والأيديولوجي بعد انتصارها، إذ يمكن أن يتم الدعم لمسار الثورة لحسابات سياسية لا صلة لها بالأيديولوجيا، وأحيانا بعدم وجود نية لإسقاط النظام، بل لتصفية حسابات معينة.
ما نريد قوله هو أن تجاهل العامل الخارجي كما يظهر واضحا في سلوك الحركة الجهادية لا يمكن أن يؤسس لأي نجاح مهما كان، حتى لو توفر الدعم الشعبي، فكيف وهو لم يتوفر على نحو كافٍ في أي مكان من الناحية العملية؛ في منطقة تعج بالانقسامات العرقية والطائفية، فضلا غن الفكرية والحزبية.
لا يمكن لدولة تتبنى أيديولوجيا يعلن العالم الحرب عليها أن تعيش لوحدها. عالم فيه مؤسسات أممية له سطوتها، وتستخدم بكل واضح من قبل القوى النافذة (العقوبات على إيران لمجرد محاولتها امتلاك سلاح نووي مثالا)، فضلا عن أن تعيش انقساما داخليا تريد أن تعالجه بالعنف، ولذلك ينبغي أن يراجع المعنيون بهذا التيار أنفسهم ويتحسسوا مواقع أقدامهم لكي لا تذهب جهودهم سدى.
في منطقة تعج بكل هذه التناقضات، وتسيطر عليها أنظمة تتبع الخارج، وبعضها لا يمكن أن يعيش دون دعم خارجي، وفي ظل وضع أمة تعاني من خلل في ميزان القوى مع عدوها عمره أكثر من قرنين؛ في ظل أوضاع كهذه، لا يمكن التأسيس بسهولة لتغيرات جذرية على النحو الذي يفكر به بعض القوم من خلال تنظيمات مسلحة، ولا بد تبعا لذلك من قدر من الإجماع الداخلي، إلى جانب تسجيل انتصارات جزئية تأخذ في الاعتبار حساسيات الداخل وتأثيرات الخارج في آن معا، ومن دون ذلك ستصطدم حتما بالجدار المسدود.