حادثة 17 ديسمبر (كانون الأول) التركية يصفها قيادات
العدالة والتنمية بعملية استفزاز مدروس ومبرمج بتوقيع جماعة غولن تهدف لإزاحة رجب طيب إردوغان وحكومته وبناء تحالف سياسي حكومي جديد يخدم مصالح البعض في داخل تركيا وخارجها.
لكن «الخدمة» ترد أن إردوغان هو البادئ من خلال توجيه أقوى طعناته من خلال التسديد نحو قلبها مباشرة باستهداف مراكز تأهيل الطلاب وإعدادهم لامتحانات الثانويات والجامعات، مركز قوتها وديناميتها وربما سبب وجودها.
في جميع الأحوال هذا الملف لن يغلق بمثل هذه البساطة وسيكون للحديث تتمة كما نفهم من متابعة مواقف وتصريحات وحملات الجانبين.
إردوغان الذي فشل في إقناع شركائه من الجماعة بتخفيف الضغوط على صقر العلمانية التركي ورئيس الأركان السابق الكر باشبوغ في عملية «ارغنيكون» الانقلابية والتعامل معه بما يليق بموقعه وحجم الخدمات التي قدمها للبلاد، تعلم من هذه التجربة ورفض التساهل عندما تحركت الجماعة لتضييق الخناق حوله هو مباشرة هذه المرة من خلال محاولة توقيف واعتقال رئيس جهاز مخابراته في فبراير (شباط) المنصرم بتهمة التخابر مع قيادات حزب
العمال الكردستاني وكأنها تسجل اعتراضها على سياسة الحكومة في التعامل مع الملف الكردي الذي كلف تركيا عشرات الآلاف من القتلى والجرحى ومليارات الدولارات من الخسائر.
الجماعة التي كانت تتفوق على إردوغان وحكومته بالنقاط الأسبوع المنصرم بعد حملة المداهمات والاعتقالات الواسعة التي شجعت عليها ضد عشرات الشخصيات السياسية والحكومية ورجال الأعمال المقربين من «العدالة والتنمية» تحت عنوان الحرب على الفساد والرشاوى والمحسوبيات داخل الحزب الحاكم، يبدو أنها انكفأت على نفسها وقررت إعادة التموضع في ساحة المواجهة بعد إفشال إردوغان محاولة ثانية لها إرادتها بعد أقل من أسبوع على عمليتها الأولى وكانت تستهدف مباشرة نجله وصهره هذه المرة.
إردوغان يقبل أن حكومته وقعت في فخ لعبة «الزوج المخدوع» في 17 و25 الشهر المنصرم وأنها لم تكن تنتظر طعنة موجعة من أقرب حلفاء الأمس القريب لكنه يؤكد سرعة الحزب الحاكم في امتصاص ارتدادات الضربة الأولى التي كانت موجعة لكنها لم تكن الضربة القاضية والدليل هو التحرك على كافة الجبهات لإنجاح حملة «صيد الساحرات» في جماعة غولن أينما كانوا ومهما كانت مواقعهم.
هكذا لخص إردوغان في لقاء مطول استغرق 4 ساعات مع نحو 50 شخصية إعلامية وفكرية وأكاديمية تركية الأحداث الأخيرة وغايتها واستراتيجية الحكومة المستقبلية في المواجهة:
نعرف أنهم يعدون لنا مفاجآت جديدة لكن نحن أيضا نعد لهم الردود التي تليق بهم، نحن الآن أكثر تماسكا وقوة في مواجهتنا معهم. كانوا لا يخططون لاصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد بل يسعون لارتكاب مجزرة عصافير استطعنا منعها في آخر لحظة. حملة اعتقالات في الفجر تنتهي إلى قرار التوقيف والسجن في المساء، هو رقم قياسي في أعداد الملفات وتوزيع الأدوار وتنفيذها. أمامك دقيقتان فقط.. قل ما عندك وغادر. التفاصيل تقولها أثناء المحاكمات.
هكذا كان المدعي العام يختصر التحقيقات والتهم الموجهة إلى أهم الشخصيات البيروقراطية التي تم إيقافها وبينها رئيس بلدية فاتح مصطفى دمير والمدير العام لمصرف «هلق» سليمان أصلان.
كما أوجز إردوغان مشهد الاعتقالات. هم يريدون الجمع بيننا وبين تنظيم القاعدة أمام المجتمع الدولي لإسقاطنا في مصيدة الحكومة التي تدعم الإرهاب.
يريدون الإيقاع بيني وبين رئيس الجمهورية قبيل الانتخابات المحلية والرئاسية، لكن الرئيس غل رفض هو أيضا محاولات اختراق مؤسسات الدولة والتحرك للتلاعب بها على هذا النحو.
هم يريدون إلباسنا ثوب الإهانة أمام قواعدنا ورشقنا بالوحل لتبقى آثاره حتى بعد تنظيفه. يريدون إسقاط الحكومة خارج صناديق الاقتراع وبعيدا عن اللعبة الديمقراطية. أحد المدعين العموميين الذي يتابع ملف القضية سافر إلى الخارج 22 مرة خلال عام واحد لماذا وما الذي فعله؟
نحن عثرنا على الفيروسات وحولناها إلى المختبرات للتعرف عليها وتحديد طريقة التعامل معها. هدفنا هو ليس تصفية الجماعة بل تصفية الدولة الموازية حتى ولو كانت من الجماعة.
باختصار إذن، إردوغان وكما يبدو نجح في كسب أكراد تركيا إلى جانبه في هذه المواجهة بعدما سمعنا أصواتا في «العمال الكردستاني» تشير إلى تورط الجماعة في استهداف قيادات كردية نسائية في عملية الاغتيالات الشهيرة في باريس العام المنصرم، لكننا سمعنا ما هو أهم من ذلك على لسان قيادات في «السلام والديمقراطية» الكردي التي اتهمت الجماعة مباشرة بافتعال أزمة من هذا النوع لقطع الطريق على مسار الملف الكردي الذي يتقدم بإيجابية في البلاد.
أما ضربة إردوغان الأقوى فكانت قبل أيام حيث تم الإفراج عن 4 نواب أكراد انتخبوا وهم في سجونهم بعد تعديلات قانونية سهلت إطلاق سراحهم وكلها مؤشرات تؤكد التنسيق البعيد عن الأضواء بين الحكومة والقيادات الكردية الذي سيشكل بعد الآن مشكلة حقيقية لتمدد ونفوذ الجماعة في مدن جنوب شرقي تركيا.
إردوغان نجح أيضا في كسب رئيس نقابة المحامين الأتراك العلماني الاتاتوركي متين فيزي أوغلو إلى جانبه هو الآخر بعد لقاء مطول انتهى بالاتفاق على إعداد حملة إصلاحات قضائية واسعة تقود إلى تعديل جذري في تركيبة ومهام مجلس القضاة والمدعين العموميين هاجس إردوغان الأول، وربما قد يكون مقدمة لمراجعة محاكمات ارغنيكون والمطرقة وإطلاق سراح الكثير من الشخصيات العلمانية ورجل الأمن التركي الشهير الذي كشف أسرار الجماعة ودفع ثمن ذلك باهظا حنفي افجي.
إردوغان ذكر الحاضرين بأن آخر محاولات استهداف تركيا كانت من خلال التحرك لقطع الطريق على شاحنة تركية في مناطق الحدود محاولين اتهامها بنقل أسلحة وذخائر إلى «القاعدة» في سوريا، ولولا دخول وزير الداخلية مباشرة على الخط والكشف عن أنها عملية ينظمها ويشرف عليها جهاز المخابرات التركي وتندرج في إطار حمل المساعدات إلى تركمان سوريا لكان تمسك من اعترض طريق الشاحنة بالإساءة إلى تركيا وسمعتها على هذا النحو في المحافل الدولية.
الهدف بالنسبة لإردوغان بعد هذه الساعة هو ليس فقط تصفية الحسابات مع من «يعمل لاغتيال الإرادة الوطنية وإيقاف عجلة التقدم» بل من حرض وشجع على إعلان الحرب ضد الاقتصاد التركي إحدى أهم أوراق قيادات العدالة والتنمية التي بنت عليها الكثير من معادلاتها وحساباتها في الداخل والخارج.
بولند أرينش نائب إردوغان والرجل الثالث في «العدالة والتنمية» كشف النقاب قبل أيام عن 4 استطلاعات رأي جرت مؤخرا تقول: إن حصة «العدالة والتنمية» في أي انتخابات قريبة ستتجاوز الخمسين في المائة وأن لا حظوظ لبقية الأحزاب للاقتراب منه أو منافسته على إدارة شؤون البلاد في الحقبة المقبلة.
(الشرق الأوسط)