عندما انطلقت عملية إشهار المبادرة الأردنية للبناء "
زمزم" في الخامس من حزيران/ يونيو 2012، أثارت جدلا واسعا ونقاشا كبيرا، فقد حظيت مراسم الاحتفالية باحتفاء لافت. وتكمن أهمية المبادرة كونها صدرت عن شخصيات وازنة في جماعة
الإخوان المسلمين في الأردن، وهي جماعة تتمتع بحضور سياسي واجتماعي وثقافي في المشهد الأردني وتعتبر حركة المعارضة الأساسية لنظام الحكم في المملكة. وقد تزامنت المبادرة مع تعرض الجماعة الأم في مصر للحظر والإقصاء عن الحكم، الأمر الذي طرح تساؤلات وإشكاليات عديدة حول ماهيّة المبادرة ومآلاتها المستقبلية، فهل هي محاولة للتكيّف مع التطورات والظروف المحيطة، أم انها اجتهاد تجديدي في نظر وممارسة الحركة الإسلامية، وهل هي بوادر انشقاق كبير عن الجماعة أم أنها مجرد حالة احتجاج تنظيمية مؤقتة؟
على صعيد جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسي جبهة العمل الإسلامي، أصدرت الجماعة بيانا داخليا يحظر التعامل مع المبادرة والمشاركة في فعالياتها، وأبدت الجماعة انزعاجا تجاه المبادرة وقياداتها إلا أنها لم تتخذ خطوات صارمة وقرارات تنظيمية حاسمة آنذاك بفصل قادتها من التنظيم أو محاكمتهم، فقد اعتمدت الجماعة نهجا متدرجا يقوم على المراقبة فالاحتواء والتعايش، وهي الطريقة المعهودة في تدبير الخلافات الداخلية بين الأجنحة المختلفة من الصقور والحمائم والتيارات الوسطية. مؤخرا تم إحالة ملف ثلاثة من قيادات "زمزم" وهم
ارحيل غرايبة ونبيل الكوفحي وجميل دهيسات إلى المحكمة المركزية الداخلية، وجاء قرار الإحالة إلى المحكمة بعد نحو شهرين من عملية الإشهار.
كشفت مبادرة زمزم عن عمق الخلافات داخل جماعة الإخوان المسلمين على المستوى التنظيمي الهيكلي وسلطة اتخاذ القرارات، وعلى المستوى الإيديولوجي المتعلق بأولويات السياسة الإخوانية تجاه الدولة والمجتمع، إذ لم يقتصر الموقف من المبادرة على جناح دون آخر فشيوخ الجماعة من الصقور والحمائم أجمعوا على رفضها والتشكيك بجدواها والتصدي لمعطياتها شكلا ومضمونا، الأمر الذي أسفر عن بروز تحولات بنيوية ملتبسة في تصورات الجماعة حول ذاتها ودورها وقابليتها للتطور والتحديث.
تتوافر المبادرة على ضعف بنيوي لا يمكن تجاوزه يقوم على منطق الربح بدون خسارة، وهي معضلة أدت إلى نهايتها بمجرد إطلاقها، فالمبادرة تعبر بما لا يدع مجالا للشك عن حالة من السخط وعدم الرضا عن مسار جماعة الإخوان المسلمين على الصعيدين التنظيمي والإيديولوجي، وهي قضايا ومسائل تكشفت عقب التجربة الإخوانية المريرة في مصر. فالمشكل الأساس في المبادرة يتمثل بالاستناد إلى منطق توفيقي مستحيل، فهي تخشى الحسم من خلال تقديم تصورات مثالية عامة، فالحديث عن هوية وطنية جامعة ومشاركة وطنية واسعة وتنمية مستقلة مستدامة ومواطنة حقيقية فاعلة وحقوق وحريات مصانة وأنظمة وقوانين عادلة، والانتقال من الإيديولوجي إلى البرامجي ومن التنظيمي إلى الشبكي لا يعدو كونه أوهاما إيديولوجية حالمة، فسؤال العلاقة بين الإسلام والحداثة يتطلب الخروج من أوهام الإسلام السياسي إلى أفق ما بعد الإسلام السياسي.
القصور الذاتي لمبادرة زمزم يتمثل بالإصرار على التموضع تنظيميا وأيديولوجيا داخل حضن الإسلام السياسي ممثلا بجماعة الإخوان المسلمين والعمل على تحويلها إلى فضاءات ما بعد الإسلام السياسي، من خلال الجمع والتوفيق بين أطروحتين تنتميان إلى سياقات مختلفة بنيويا، فسسيولوجيا التحولات داخل الجماعة بطيئة بحكم بنيتها وتكوينها التقليدي الذي تحكمه تصورات سياسية فقهية متوارثة تعتمد على مفاهيم الجماعة والطاعة للدولة السلطانية، ولذلك فهي مع تأسيسها لحزب سياسي (جبهة العمل الإسلامي) يقوم على الحداثة السياسية لم تتخل عن الجماعة كسلطة مرجعية، الأمر الذي فاقم من مشاكلها عبر الازدواجية التنظيمية والإيديولوجية، وعلى الرغم من تقدمها خطوة من خلال تقديم رؤيتها الإصلاحية عام 2005 والتي استنسختها عن الجماعة المصرية الأم وعملت على تبييئها أردنيا، إلا أنها خلقت إشكاليات عديدة كونها لا تعدو تكيّفات مرحلية وليست تجديدا أبداعيا مستقبليا.
الرؤية السياسية الطموحة التي قدمتها المبادرة للمستقبل لا تتوافق مع رؤية الجماعة والنظام للإصلاح، إذ تقوم المبادرة على أساس المشاركة والتعاون بين مختلف أطياف المجتمع السياسي وكافة الفئات والقوى والفعاليات المكونة للدولة وفق مبادئ الحداثة السياسية التي تستند إلى مبادئ العدالة والمساواة والمواطنة والديمقراطية التشاركية، من خلال اقتراح جملة من التعديلات القانونية والدستورية الجوهرية التي تمس أسس العملية الديمقراطية كقانون الانتخاب المثير للجدل وصولا إلى تعديلات دستورية تطال سائر القضايا المتعلقة بتشكيل الحكومات وتحصين الحقوق والحريات، ولا جدال بأن هذه المفاهيم هي التي تؤسس لمرحلة ما بعد الإسلام السياسي، ولا تنتمي إلى تراث الجماعة السياسي التاريخي إلا في أجزاءه التقنية، وليس مبادئه التأسيسية.
وإذا كان هدف المبادرة هو الخروج من الأطر التنظيمية الضيقة للجماعة وأبنيتها الهيكلية الحديدية، إلى أفق العمل الوطني الجامع، فكيف يمكن البقاء في إطار الجماعة وعدم الامتثال لقراراتها؟ هذه المفارقة غير ممكنة التحقق واقعيا وتندرج في سياق الأمنيات من خلال البحث عن هوية جديدة مع الاحتفاظ بالقديمة، وتسعى إلى بناء سياسات للاعتراف بالآخر عبر التنكر للذات، وكيف يمكن استبدال سلطة مرجعية بأخرى مع الاحتفاظ بكليهما.
على الرغم من الأهمية الاستثنائية لمضمون المبادرة إلا أن الآليات التنسيقية لتجسيدها كانت عمليا ملتبسة، فهي تصر على كونها تتجاوز الأطر الحزبية والتنظيمية، وتسعى لبناء عمل شبكي يطال كافة الفئات والقوى والفعاليات دون استبعاد وتهميش أحد، ويتناول مجال اختصاصها السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع مع التركيز على الأبعاد الاقتصادية التنموية التي أهملتها الأحزاب والقوى السياسية بحسب المبادرة، وتفعيل قوى المجتمع المدني للمشاركة في عملية البناء وانخراطها في تطوير مجالات عملها التطوعي الخيري وفي مقدمته تنمية المجتمع المحلي اقتصاديا، لكن السؤال الكبير الذي يبقى معلقا لدى قيادات المبادرة كيف يمكن الانتقال من آفاق النظر والفكر إلى العمل والممارسة، مع الإصرار على الطبيعة غير التنظيمية والحزبية تحديدا والحديث عن الإطار الشبكي، وهو الأمر الذي يحيل على تصورات تصلح في العوالم الافتراضية فيما يحتاج تحويلها إلى العالم الواقعي إلى أكثر من تنظيم ومؤسسة، وهو يكشف عن الجانب الفكري الذي يهيمن على المبادرة ومعاناة أصحابها في التكيّف مع الجمود التنظيمي والتصلب الإيديولوجي لجماعة الإخوان المسلمين التي ينتمون لها.
تمثل مبادرة زمزم تجسيدا لأزمة النخبة القيادية في جماعة الإخوان بتسوية خلافاتها الداخلية، التي تنامت على مدى سنوات دون الوصول إلى حلول عملية، وعلى النقيض من هدف المبادرة للخروج من الأزمة، وتطوير خطاب الجماعة وممارستها، بالانتقال من الهرمية إلى الشبكية، والاقتراب من المجتمع على اعتبار أن جماعة الإخوان توفر مظلة روحية ومدرسة فكرية، فإن المبادرة تساهم في تعميق الأزمة داخل الجماعة، التي تنظر إلى المبادرة بعين الشك والريبة كونها لا تنسجم مع البناء التنظيمي والفكري للإخون.
أعتقد أن المبادرة ولدت وماتت في نفس اللحظة التي أعلن عن إشهارها، نظرا لأطروحاتها التوفيقية بين بنى تقليدية وأخرى تحديثية، فهي تقدم أفكارا وتصورات عامة تندرج في إطار ما بعد الإسلام السياسي، بينما يصر قادتها على البقاء في أفق الإسلام السياسي، وعلى المبادرة إذا أرادت النجاح والعبور التخلي عن أوهام التوفيقية وأن تحسم خياراتها الإيديولوجية باتجاه المستقبل، من هنا فإن وقت الحساب قد حان بعيدا عن الأحلام والأوهام.