لا تنازل عن السلطة، ولا مؤتمر قريباً للتفاوض مع المعارضة، لاءان أطلقهما الرئيس السوري بشار الأسد، ولو بعبارات أخرى، وإذا أُضيفت إليهما اللاءات الخمس التي حددها رئيس الائتلاف الوطني المعارض، أحمد الجربا لتفادي «اتفاق تسوية مذلّ»، تدنّت حظوظ انعقاد «جنيف2» إلى درجة... التجمد.
كان واضحاً منذ وقت مبكر أن النظام في دمشق سيحاول الاستثمار في شهادات «حسن التعاون» التي تمنحه إياها أطراف دولية في ملف تدمير ترسانته الكيماوية. وهو يستثمرها بالتأكيد في محو كارثة الهجوم الكيماوي على الغوطة، واستعادة معنوياته لتدمير ما تبقى من تماسك في صفوف المقاتلين المعارضين... ليُطرح السؤال عمَّن يمثّل المعارضة في مؤتمر «جنيف2»، فتنقلب المسألة من لاشرعية النظام إلى البحث عن معارضة سمّاها الأخضر الإبراهيمي «معقولة»، يمكنها ادّعاء شرعية تمثيل الطرف الآخر.
ولم يكن بلا دلالة قصف تصريحات الرئيس السوري، والذي استهدف فرص انعقاد «جنيف2»، وزرع بذور مزيد من الشكوك والثقة المهزوزة بين الائتلاف الوطني السوري وعواصم القرار في الغرب. فحديث بشار الأسد عن عدم وجود ما يحول دون ترشحه للرئاسة مجدداً العام المقبل، عزز هواجس المعارضين إزاء احتمالات «بيع» العواصم الكبرى الثورة، في مقابل الخلاص من ترسانة الأسلحة الكيماوية. بهذا التصوّر، يُترك النظام ليستعيد هيمنته على الداخل، ويقضم المزيد من المناطق التي سقطت في قبضة المقاتلين. وبهذا التصوّر ايضاً، تُترك المعارضة لمصيرها البائس بين فكَّي نظام لا يأبه لثمن القتال ولو كلّف عشرات الآلاف بعد المئة ألف، وكتائب «إسلامية» مدجّحة بأسلحة التطرف والتكفير، وتأليب كل الأقليات على الثورة، أو ما بقي منها.
وإن كانت للمبعوث العربي- الدولي الأخضر الإبراهيمي زلاّت اللسان المتساقطة من نية حسنة، فيما هو غير مرحّب به لدى المعارضة ولا يعدّه النظام «نزيهاً» بوساطته، فالحال أن الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي الذي بادر إلى إعلان موعد انعقاد «جنيف2» في حضور الإبراهيمي، بدا كمن يظن أنه يزفّ إلى السوريين بشرى نهاية وشيكة لمآسيهم. وأما وقائع مؤتمر «أصدقاء سورية» في لندن الذي استمع الى الجربا ومطالب «الائتلاف» لحضور «جنيف2»، فلعلها تكشف مجدداً استحالة المستحيل، لدى النظام السوري وخصومه.
بالمنطق والنية «الحسنة»، لا ضير في أن يصدّق السوريون وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي حرص على إبلاغ الائتلاف أن واشنطن لن تكتفي بالملف الكيماوي لطي مأساة المجزرة المستمرة. لا ضير في أن يصدّقوا ايضاً ان لا حل عسكرياً، فيما ثبُت عجز المعارضين عن الحسم أو تعديل ميزان القوة... ولكن، هل في يد «الائتلاف» غلّ قبضة النظام عن آلة الحرب؟ ومَن يقنع موسكو وطهران مثلاً بأن لا أحد يصدق ادعاءهما الحرص على حل سلمي بالحوار، بينما حليفهما النظام السوري يريد احتكار ورقة اختيار المعارض «الصالح» للتفاوض في جنيف؟
يستمر القتل في سورية، ولكن، بالنية الحسنة لدى الإبراهيمي وكيري، وحتى لدى زعيم الكرملين فلاديمير بوتين المتفائل بـ «نجاح» في التحضير لـ «جنيف2»، ما الذي يتبقى سوى التحقق من نيات النظام وأهداف «جبهة النصرة» ودويلة «القاعدة»؟
والحال أن الإجماع على بيان مؤتمر لندن إذ يعزّز رصيد «الائتلاف» ومعنوياته، بعد انتكاسات متتالية وانشقاقات في «الجيش الحر» لمصلحة كتائب فضّلت «القاعدة»، يعطي بيد ليأخذ بالأخرى موافقة «الائتلاف» على المجيء إلى جنيف، لتُشكَّل حكومة انتقالية، تؤول إليها كل صلاحيات الرئيس الأسد، ويغيب عنها.
ولا يجيب البيان بالطبع عن سؤال المربع الأول: مَنْ سيُقنع الأسد بالتخلي عن صلاحياته، ليجرؤ أي من رموز نظامه على التفاوض باسمه في «جنيف2»؟ أهو حليفه خامنئي أم عرّاب حمايته في مجلس الأمن بوتين؟ وإذا كان الجربا لا يقبل بتسوية «مذلّة»، فما الذي سيُرغم النظام السوري على تجرّع كأسها، بعدما بات السيناريو العسكري الأميركي صفحة «افتراضية»، من الماضي؟... وبعدما استعادت دمشق هامش المناورة، مستغلة استفحال «الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام» وانقضاضها على مناطق «الجيش الحر» وقواعده الشعبية.
فلنصدّق مع أصحاب النيات «الحسنة»، وإلى حين، أن نظاماً لم يدرك بعد حجم الكارثة التي نجمت عن محاولته سحق الثورة، سيصدّق أن الوقت حان لرحيله.