يبدو أننا مختلفون حول تشخيص الأزمة في مصر، وهل أنها تهدد الإسلام أم تهدد الديمقراطية؟ وهي ملاحظة عنَّت لي حين لاحظت أن تظاهرات أنصار الدكتور مرسي تردد هتافات تدعو إلى نصرة الإسلام والذود عن حياضه، بما يعطي الانطباع بأن المعركة لها بعدها الديني الذي يستثير مشاعر المؤمنين ويستفزهم للدفاع عن عقيدتهم المستهدفة. وذلك تقدير مغلوط وتزيد يراد به التحريض والتعبئة التي تشوه الحقيقة وتدفع بالأزمة إلى مسار بعيد عن الحقيقة، فيصوره صراعا دينيا وليس سياسيا. وذلك تكييف غير صحيح فحسب، وإنما من شأنه أيضا أن يصرف الانتباه عن جوهر المشكلة، بما يحصر الصراع في حدود الجماعة والعقيدة ويصرف الانتباه عن شقه الأكبر والأهم الذي يتعلق بمستقبل الوطن والديمقراطية فيه. في هذا الصدد فإنني أحب أن أوضح عدة أمور هي: < إن الإخوان ليسوا هم الإسلام، الذي هو موجود قبل الجماعة وبعدها. وغاية ما يمكن أن يقال بحقهم إنهم جماعة من المسلمين، لا يمثل الاشتباك معهم أو خصومتهم اشتباكا أو خصومة مع الإسلام بالضرورة، مع إدراكي لحقيقة أن بين خصومهم أناسا يكرهون الإسلام، ولكن ليس كل معارضي الإخوان من هؤلاء، وإنما الأغلبية تختلف معهم سياسيا ولا خلاف لهم دينيا أو عقيديا. < إن الدكتور محمد مرسي أبقى على الدولة المصرية كما هي، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه أقام دولة الإسلام بالمفهوم التقليدي. وقد قلت في مناسبة سابقة إنه خلال العام الذي أمضاه في السلطة فإنه لم يصدر قرارا ثوريا واحدا ولا اتخذ أي خطوة استهدفت أسلمة الدولة بخلاف ما هو شائع. وكل ما استجد في عهده أمران، أحدهما أن الرئيس ذاته كان ملتحيا وأن عددا من الملتحين ظهروا في مقر الرئاسة وبعض أجهزة الدولة، ثم إنه فتح الباب لدخول مختلف الجماعات الإسلامية إلى المعترك السياسي شأنها شأن غيرها من التيارات الأخرى، وهو ما يحسب له لأن تلك الجماعات سواء التي آثرت العمل السري أو انحازت إلى فكرة استخدام العنف، اطمأنت إلى أن بوسعها المشاركة في العمل العام من خلال أساليب التغيير السلمي فتخلت عن تقاليدها وانضمت إلى المتنافسين في الساحة السياسية. < إن شعار أخونة الدولة كان دعائيا وتعبويا بأكثر مما كان معبرا عن الحقيقة، لذلك قلت في وقت مبكر إن أخونة الدولة المصرية بقوة جهازها البيروقراطي لم تتم، وإنما حدث العكس تماما، حيث تمت دولنة الإخوان، بمعنى أن البيروقراطية ابتلعتهم وجعلتهم جزءا من آلياتها. بالتالي فلم يؤثر وجود الإخوان على جهاز الدولة، وبقيت الأخونة فرقعة سياسية وإعلامية ليس أكثر. < أكرر ما سبق أن قلته من أن جذور تشويه الصراع الحاصل في مصر تمتد إلى المرحلة التي جرى فيها تقسيم القوى السياسية إلى مدنية ودينية، الأمر الذي أضفى على الصراع مسحة تتعلق بالهويات وإخراجه من نطاق المنافسة السياسية. وأزعم أن عناصر التيار العلماني واليساري هم الذين ابتدعوا تلك القسمة لكي يوجدوا إطارا لاحتشادهم في مواجهة المنتسبين إلى التيار الإسلامي. ومنذ ذلك الحين (عام 2011) فرضت على الساحة فكرة صراع الهويات الدينية وبدا كأن التيار «المدني» يقف في موقف الضد من التيار الإسلامي، في حين أن ذلك لم يكن صحيحا من جوانب كثيرة، لأن ما هو ديني يلتقي مع ما هو مدني في أمور عدة، خصوصا في التعويل على المؤسسات في إدارة المجتمع والالتزام بقيم الديمقراطية في العمل السياسي. والأمر كذلك، فإنني أزعم أن هتافات الدفاع عن الإسلام في مظاهرات مؤيدي الدكتور محمد مرسي تقحم البعد العقيدي في الصراع الدائر بغير مبرر. والأخطر من ذلك أن تلك الهتافات تكاد تقصي قطاعات لا يستهان بها من المعارضين المخالفين للإخوان والتحالف الذي يجمعهم مع آخرين، في حين يقفون إلى جوارهم في معسكر الدفاع عن الديمقراطية. وإذا صح ذلك التحليل فإنه يستدعي فكرة أخرى تتعلق بتسمية التحالف الوطني المعارض، الذي يعتبر أن مهمته هي الدفاع عن الشرعية، في حين أن الدفاع عن الديمقراطية هو الأولى بالاهتمام والتركيز، فضلا عن أنه يشكل مظلة واسعة تحتوي كل الغيورين على الديمقراطية والمنادين بها. وأهم من ذلك أن إعلاء فكرة الدفاع عن الديمقراطية يستجيب لأهم الأهداف التي نادت بها ثورة 25 يناير حين رفعت منذ وقت مبكر شعارات المطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية. إنني لا أدعو إلى تجاهل ملف أزمة الإخوان، لكنني أحسب أن ملف الديمقراطية أهم وأخطر. وأزعم في هذا الصدد أن الانتصار في التعامل مع الملف الثاني يكفل تلقائيا إزالة العقبات التي تعترض حل مشكلة الملف الأول.