ملفات وتقارير

باكستان وأفغانستان.. حدود ملتهبة وتوازن قوى متغير

جدّدت باكستان الاتهامات لجارتها أفغانستان بشأن الهجمات التي تشهدها الأراضي الباكستانية- الأناضول
جدّدت باكستان الاتهامات لجارتها أفغانستان بشأن الهجمات التي تشهدها الأراضي الباكستانية- الأناضول
جَدَّدَ وزير الخارجية الباكستاني، إسحاق دار، خلال اجتماعٍ في بروكسل عقد الجمعة 21 تشرين الثاني/نوفمبر، دعوته حركة طالبان في أفغانستان إلى "التحرك المسؤول" من أجل القضاء على ما وصفه بـ"الإرهاب المنطلق من الأراضي الأفغانية". كما أكد أن أفغانستان تظل عاملاً "مؤثرًا وحاسمًا" في استقرار باكستان والمنطقة بأسرها.

اظهار أخبار متعلقة


جاءت هذه التصريحات على خلفية تصعيد عسكري ملحوظ، شهدته المنطقة الأسبوع الماضي، حيث اندلعت اشتباكات عنيفة بين الجيش الباكستاني ومسلحين بالقرب من الحدود الأفغانية في مقاطعة خرم، أسفرت عن مقتل 23 مسلحاً.

التوتر بين البلدين والذي ازدادت وتيرته في تشرين الأول/أكتوبر الماضي بشن باكستان غارات جوية استهدفت ضواحي كابل مقابل رد أفغاني مباشر على المعسكرات الحدودية للجيش الباكستاني، ليست مجرد مناوشات عسكرية عابرة، بل تعد لحظة مفصلية أعلنت نهاية عصر جيوسياسي بكامله؛ إنه انهيار العِلاقة "الخاصة" بين المؤسسة العسكرية الباكستانية وحركة طالبان الأفغانية، التي تحولت من تحالف استراتيجي يعود لعقود إلى مواجهة مفتوحة على حدود ملتهبة.

ثلاث جولات من المحادثات كان أخرها فشل محادثات إسطنبول الأخيرة بعد ثلاثة أيام من المداولات الشاقة برعاية تركية قطرية، والذي عد تعثر دبلوماسي، كان العرض الأبرز لتحول استراتيجي عميق جنوب آسيا، الأدوار تنقلب، والتحديات تتشابك، لترسم سيناريوهات مستقبلية ستحدد مصير واحدة من أكثر مناطق العالم اضطراباً.

نقف هنا أمام قصة صعود طالبان الأفغانية كفاعل مستقل لا ينحني لأحد، بالتزامن مع سقوط الاستراتيجية الباكستانية الأمنية التقليدية التي تعتبر أفغانستان "عمقها الاستراتيجي" التابع، إنها قصة حدود لم تعترف بها كابل يوماً، وصراع نفوذ تتقاطع فيه مصالح القوى الإقليمية والعالمية.

اتهامات متبادلة وفشل التفاوض
على مدى خمسة أيام، جلس الطرفان لإنهاء التصعيد العسكري الذي يهدد بتحويل هذا النزاع الحدودي المزمن إلى حرب مفتوحة، لينتهي الأمر باتهامات متبادلة، خرج وزير الدفاع الباكستاني خواجه أصف في تصريح لقناة "جيونيوز" معلناً فشل المحادثات، موضحاً أن الوفد الأفغاني اتفق مع نظيره الباكستاني، لكن الأخير رفض التوقيع على اتفاق مكتوب، مكتفياً بالضمانات الشفوية وهو ما وصفه الوزير بأنه "مستحيل في المفاوضات الدولية".

من جهته، نفى المتحدث باسم الحكومة الأفغانية ذبيح الله مجاهد رواية خواجه أصف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قائلاً: "الوفد الباكستاني يريد أن يلقي كل مسؤوليته الأمنية على عاتقنا، ولا يريد أن يتحمل أية مسؤولية عن أمن بلاده أو أمننا".

وهو ما أكده وزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي في أثناء حضوره حفل تخرج الدورة التدريبية التخصصية للمعهد الدبلوماسي، قائلاً: "وضعوا مطالب تعجيزية، طلبوا أن نقدم ضمانات بعدم حدوث أية حوادث أمنية داخل باكستان. فهل لدينا قوات حفظ سلام في باكستان؟ هل لدينا هناك جيش أو شرطة؟! بل على العكس، عناصر داعش تتسلل من أراضيهم إلى أفغانستان، وطائراتهم تدخل أجوائنا وترتكب جرائم، لكنهم لا يتحملون هذه المسؤولية".


من "الراعي" إلى "الخصم": انهيار الاستراتيجية الباكستانية
لعقود، قامت الاستراتيجية الباكستانية تجاه أفغانستان على مفهوم "العمق الاستراتيجي" الموجه ضد الهند، وكانت بعض القوى الأفغانية و حركة طالبان، التي ظهرت في  تسعينيات القرن الماضي، جزءًا من الأداة الرئيسة لتحقيق هذا الهدف، وكانت باكستان "الراعي" الذي يوفر الملاذ والدعم اللوجيستي ، بينما كانت طالبان "الوكيل" الذي ينفذ.

لكن هذه المعادلة انقلبت رأساً على عقب بعد آب/أغسطس 2021، فبدلاً من أن تكون حكومة كابل الجديدة امتداداً لإرادة إسلام آباد، بدأت طالبان تمارس سيادتها بوعي قومي أفغاني صارم، نائب وزير الداخلية الأفغاني رحمت الله نجيب يلخص هذا الموقف في لقاء له مع التجار والصناعيين بقوله: "يريدون أن يثبتوا أن حكومة الإمارة (إرهابية) بطلبهم نقل المجموعات المسلحة إلى بلادنا، نحن قلنا لهم: اعلنوا أولاً أنهم أناس صالحون ونحن نقبلهم، لكنهم قالوا: لا، هم إرهابيون. إذاً هذه مشكلتكم!"، وعلى ما يبدوا فأن باكستان تتحسس من نموذج حكم أفغاني مستقل يعيد تعريف التحالفات الإقليمية بعيداً عن الهيمنة الباكستانية التقليدية.



خط دورند وطالبان باكستان: الشوكة في خاصرة التفاهمات
في قلب هذا الصراع يكمن "خط دورند"، ذلك الإرث الاستعماري البريطاني الذي تم ترسيمه عام 1893 بين ممثلي الحكومة البريطانية وحاكم  أفغانستان آنذاك عبد الرحيم خان، لم تعترف أفغانستان بهذا الخط كحدود دولية، حتى بعد قيام دولة باكستان عام 1947، حيث أيد مجلس "لوياجيرغا" الأفغاني في آيار/ مايو 1949 موقف الحكومة الرافض لمعاهدة دورند.

بعد عام 2021، تصاعدت حدة التوترات بين البلدين ليس بسبب خط دورند فقط، بل لتداخل نشاط حركة "طالبان باكستان" (TTP)، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أكثر من 1200 حالة اختراق حدودي و712 تجاوزاً للمجال الجوي الأفغاني في الفترة من 2021 إلى 2024، غير أن ملف طالبان باكستان (TTP)، كان الصخرة التي تحطمت عليها الجولة الثالثة من المحادثات.

وهدد وزير الدفاع الباكستاني خواجه أصف في تصريحات صحفية بـ "انفجار الأمور وتحولها إلى حرب مفتوحة" إذا انتهك الأفغان اتفاق الهدنة، قبل أن يعود في مقابلة مع الجزيرة ليؤكد أن الأمور هدأت على الحدود، مشدداً على أهمية تطبيع العلاقات بين الدولتين.

لعبة التحالفات الإقليمية: خسائر باكستان ومكاسب أفغانستان
كشفت الأزمة عن تحول جوهري، مفاده "تحول طالبان من حركة مسلحة إلى دولة ذات سيادة تستطيع التفاوض وفرض شروطها والاستقلال عن داعمها التقليدي"، فبعد أن دعمت باكستان المقاتلين في مواجهة الاحتلال السوفييتي، لعبت دوراً محورياً في الخلافات بين الفصائل الأفغانية في تسعينيات القرن الماضي، سعياً لحكومة موالية في كابل، لكن سياسة "اللعب على كل الحبال" اتضحت عندما اعترفت بإمارة طالبان الأولى عام 1999، ثم عادت لتدعم الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001، وسلمت قيادات من الحركة للولايات المتحدة.

زلماي خليل زاد، المبعوث الأمريكي الخاص لأفغانستان، لخص ذلك في تصريح لراديو "صوت أمريكا" بقوله: "باكستان كانت تمارس لعبة مزدوجة في أفغانستان، وكنا نعلم ذلك لكننا فضلنا ألا نفعل شيئا"، في المقابل، تخسر باكستان الآن في هذه المعركة الجيوسياسية. فاستقبال الهند لوزير الخارجية الأفغاني في نيودلهي يعد بمنزلة ضربة استراتيجية لإسلام آباد، مهددة حلم "العمق الاستراتيجي"، كما أن ظهور قطر وتركيا كوسطاء في الدوحة وإسطنبول يحجب الدور الباكستاني التقليدي ويمنح شرعية دولية متزايدة لحكومة طالبان.

اظهار أخبار متعلقة


حتى الحليفان التقليديان، الصين وروسيا، ورغم ارتباطهما الاستراتيجي بباكستان، إلا أنهما يسعيان لاستقرار أفغانستان وأسيا الوسطى وعدم انزلاق المنطقة إلى حرب مفتوحة، مما يزيد من عزلة الموقف الباكستاني.

السيناريوهات المستقبلية: إلى أين تتجه الأزمة؟
رغم تصريحات وزير الدفاع الباكستاني الأخيرة للجزيرة التي تنبئ بانفراجه محتملة، إلا أن التصعيد الذي بدأ في تشرين الأول/أكتوبر الماضي لا يجب أن يُنظر إليه على أنه مجرد أزمة حدودية عابرة، بل إنها أزمة هُوِيَّة واستراتيجية لدولة باكستان، ولحظة تحول تاريخية تسقط فيها عقيدة "العمق الاستراتيجي" لصالح منطق الدولة الوطنية في أفغانستان، وهذا يقود إلى ثلاثة سيناريوهات محتملة:

السيناريو الأول: تجميد الوضع الراهن
ويعني استمرار وقف إطلاق النار الهش، وإغلاق المعابر الجزئي كأداة ضغط. وقد حضرت أفغانستان لهذا السيناريو، حيث طالب الملا عبد الغني بردار، نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، التجارَ بـ "البحث عن طرق تجارية بديلة"، مشترطاً على باكستان تقديم "ضمانات بعدم غلق الطرق مرة أخرى" إذا أرادت إعادة فتحها.

السيناريو الثاني: التفاوض تحت الضغط الإقليمي
عودة الطرفين للتفاوض بضمانات جديدة، بدفع من قوى إقليمية قلقة مثل الصين، الحريصة على مشاريع "الحزام والطريق". هذا السيناريو سيتطلب من باكستان تخفيف مطالبها الأمنية، ومن أفغانستان تقديم ضمانات عملية بمراقبة نشاط "طالبان باكستان" على الحدود.

السيناريو الثالث: التصعيد المحدود والحرب بالوكالة
سيناريو كارثي تسبقه هجمات كبيرة داخل باكستان تُنسب لأفغانستان، تليها ضربات باكستانية محدودة داخل الأراضي الأفغانية، في حرب بالوكالة تذكر بالدوامة الأبدية بين الهند وباكستان، مع تداعيات لا تُحمد عقباها على استقرار الإقليم كُلََّه.

القادم من الأيام سيكشف إن كان القادة في إسلام آباد وكابل قادرين على تجاوز حسابات الماضي والعبور نحو عِلاقة جديدة تقوم على الاعتراف المتبادل والمنفعة المشتركة، أم أن شبح الماضي الاستعماري والصراعات بالوكالة سيواصل حكم مصير شعبي البلدين، محولاً إياهم إلى ساحة لمعركة إقليمية لا تنتهي. الجواب سيحدد، ليس فقط مصير كابل وإسلام آباد، بل واستقرار آسيا كلها.
التعليقات (0)

خبر عاجل