لم تكن قمة منظمة
شنغهاي للتعاون في
الصين مجرد اجتماع دوري عابر، بل لحظة مفصلية تاريخية يتحرك
فيها العالم بخطى متسارعة نحو "عالم متعدد الأقطاب". حضور قادة مثل شي
جين بينغ وفلاديمير بوتين وناريندرا مودي لم يكن رمزيا فحسب، بل عكس إرادة سياسية
واضحة في صياغة بديل واقعي عن النظام الدولي القائم على الهيمنة الأميركية.
منذ تأسيس
المنظمة في العام 2001، ظلت في نظر كثيرين تجمعا إقليميا لآسيا الوسطى، لكنّها
اليوم باتت تضم أكثر من 40 في المئة من سكان العالم، وتمثل دولها نحو 30 في المئة
من الناتج العالمي الإجمالي، أي ما يزيد عن 33 تريليون دولار سنويا.. وهذه الأرقام
وحدها تضع أيّ قمة لها في خانة الأحداث الكبرى التي قد تغيّر التوازنات في العالم.
في القمة، بدا
جليا أنّ بكين تريد أن تقدم المنظمة كـ"إطار جامع" لمواجهة الفوضى
الدولية الناتجة عن السياسات الغربية غير المتسقة. الزعيم الصيني شي جين بينغ، شدّد
في كلمته على أنّ المنظمة عليها "تحملّ مسؤوليات أكبر في حفظ السلم الإقليمي
والدفع بعجلة التنمية المشتركة"، وهو تصريح يتجاوز الخطاب الدبلوماسي، ليؤكد
أنّ بكين ترى في المنظمة "أداة" لموازنة التوترات في بحر الصين الجنوبي،
وفي آسيا الوسطى، وحتى في الشرق الأوسط.
بدا جليا أنّ بكين تريد أن تقدم المنظمة كـ"إطار جامع" لمواجهة الفوضى الدولية الناتجة عن السياسات الغربية غير المتسقة
أمّا بوتين، فاستغل
القمة لإعادة التأكيد على أنّ موسكو ليست معزولة دوليا، وأنّها قادرة على العمل في
إطار جماعي يشمل قوى ديمغرافية واقتصادية كبرى، برغم العقوبات الغربية والحرب
الطويلة في أوكرانيا. بوتين استخدم المنصة ليؤكد أن بلاده قادرة على بناء
تحالفات
استراتيجية داخل منظمة تمثل نحو ثلث الاقتصاد العالمي، والأرقام تدعم هذا التوجه: التجارة
بين
روسيا ودول المنظمة ارتفعت إلى ما يزيد عن 245 مليار دولار في 2024، بزيادة
تفوق 20 في المئة عن العام الذي سبقه، برغم محاولات واشنطن وبروكسل خنق الاقتصاد
الروسي.
استطاعت موسكو أن
تعزّز صادرات الطاقة إلى الصين والهند، حيث أصبحت الأخيرة تستورد أكثر من 40 في
المئة من احتياجاتها النفطية من روسيا. هذه الأرقام تُظهر أنّ الكتلة الأوراسية
قادرة على تأمين بدائل تجارية ومالية لموسكو، وأن روسيا لا تزال لاعبا مركزيا في
معادلة الشرق، بل وتستخدم القمة لتأكيد موقعها كركيزة في "عالم متعدد الأقطاب".
بقية الأرقام
الاقتصادية التي برزت في قمة شنغهاي، كشفت أيضا عن توجهات أكثر عمقا: حجم التجارة
بين دول المنظمة ارتفع بنسبة تفوق 35 في المئة خلال السنوات الخمس الماضية، متجاوزا
800 مليار دولار سنويا. الصين والهند وحدهما تمثلان نحو 18 في المئة من التجارة
العالمية، ومع انضمام روسيا وإيران ودول آسيا الوسطى، فإنّ المنظمة تتحول تدريجيا
إلى كتلة اقتصادية قد تنافس الاتحاد الأوروبي أو حتى "نافتا" في قدرتها
على صياغة تكتلات بديلة.
ليس من المستغرب
إذا أن تركز القمة على الطاقة المتجددة والاقتصاد الرقمي، باعتبارهما مفاتيح
المستقبل. الإعلان عن تأسيس شراكة استراتيجية بين الصين وأرمينيا، على هامش القمة،
أظهر أنّ نطاق المنظمة لم يعد محصورا جغرافيا، بل مرشحٌ للتمدد نحو منطقة القوقاز،
وربما أبعد.
اللافت أيضا كان
خطاب شي- مودي عن أنّ الصين والهند "شريكان لا منافسان". هذه العبارة حملت
دلالات كبيرة، فبينما بلغ حجم التجارة بين البلدين نحو 136 مليار دولار في 2024،
لا تزال العلاقة ملغومة بحدود مشتعلة وأزمات جيوسياسية. لكن إعادة توصيف العلاقة
بهذا الشكل، في قمة علنية، يوحي برغبة في التخفيف من التوتر وفتح المجال لتعاون قد
يعيد رسم معادلات آسيا.
شي وصف العلاقة
بـ"التنين والفيل"، في استعارة توحي بالتكامل بدلا من الصدام. وفي عالم
باتت الولايات المتحدة تتراجع فيه عن دور "الشرطي الاقتصادي"، فإنّ قدرة
بكين ونيودلهي على تنسيق مصالحهما قد تعني ولادة محور ثانٍ بعد المحور "الروسي-
الصيني".
التحالفات التي نوقشت
على الهامش، تؤشر بدورها إلى تغييرات أعمق. لقاء بوتين مع شي حمل إشارات واضحة إلى
توسيع التعاون العسكري والاقتصادي، خصوصا في ظل الحرب المستمرة في أوكرانيا، حيث
تبحث موسكو عن منافذ جديدة تتجاوز العقوبات الغربية. كما أنّ فكرة إعادة إحياء "الترويكا"
الروسية
الهندية الصينية (RIC) عادت إلى الطرح، وهذه صيغة إذا أعيد
تفعيلها قد تضع نصف سكان العالم تقريبا في كتلة واحدة.
المؤشرات كلّها تصب في اتجاه واحد: لم يعد بالإمكان الحديث عن نظام أحادي القطبية. منظمة شنغهاي، بأعضائها وأجندتها وأرقامها، باتت منصة تقدم نفسها كصوت الجنوب العالمي، وكإطار جامع لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية بعيدا عن إملاءات الغرب
ما يعزز هذا
الطرح أنّ المنظمة باتت تستقطب شركاء من خارج محيطها، مثل مصر وتركيا، الباحثتين
عن موقع في عالم متحوّل. كما أن الأهمية
الحقيقية لهذه القمة تكمن في أنّها جاءت في ظرف دولي حساس، فالتوتر بين الولايات
المتحدة والصين بلغ مستويات غير مسبوقة، والحرب في أوكرانيا دخلت عامها الرابع من
دون أفق واضح، وأسعار الطاقة والغذاء تتأرجح بشدة.
في مثل هذا
المناخ، تصبح منظمة شنغهاي أكثر من مجرد "منصة حوار"، بل محاولة جدية
لتأسيس قطب جديد. إذا كانت مجموعة السبع تمثل نحو 44 في المئة من الناتج العالمي،
فإن منظمة شنغهاي مع التوسعات الأخيرة باتت تقترب من هذا الحجم، وهو ما يضعها في
موقع موازٍ لا يمكن تجاهله. الأرقام السكانية تلعب دورا إضافيا، إذ إن أكثر من 3.2
مليار نسمة يعيشون في دول المنظمة، ما يعني سوقا داخلية هائلة، وقدرة على تحريك
الاقتصاد العالمي باتجاهات جديدة.
تاريخيا، قدمت
مثل هذه القمم مؤشرات على التحولات في النظام الدولي: مؤتمر باندونغ عام 1955 أطلق
"حركة عدم الانحياز"، وقمم العشرين بعد 2008 كرست واقع أنّ الاقتصادات
الناشئة صارت لاعبا لا يمكن تجاوزه. واليوم، قمة تيانجين وضعت لُبنة في مسار
الانتقال إلى "نظام متعدد الأقطاب".
قد لا يكون هذا
الانتقال مكتملا بعد، لكن المؤشرات كلّها تصب في اتجاه واحد: لم يعد بالإمكان
الحديث عن نظام أحادي القطبية. منظمة شنغهاي، بأعضائها وأجندتها وأرقامها، باتت
منصة تقدم نفسها كصوت الجنوب العالمي، وكإطار جامع لمواجهة التحديات الاقتصادية
والأمنية بعيدا عن إملاءات الغرب.