في تقييم أي حدث سياسي مهم أو عملية عسكرية بارزة، يُنظر إلى الدوافع
والمنطلقات والأهداف، كما ينظر إلى التصريحات والإشارات والأحداث، وينظر إلى
التوقيت والسياق والظروف، وإلى الفواعل المؤثرة والمتداخلة وتشابك العلاقات، وإلى
النتائج والتبعات والارتدادات سواء بسواء.
تمثل عملية "
ردع العدوان" التي أطلقتها المعارضة السورية وتحديدا
ما تسمى "إدارة العمليات العسكرية" ضد قوات النظام وحلفائه في حلب؛
تطورا مهما، بل هو الأبرز في المشهد السوري منذ سنوات عديدة، وليس من المبالغة القول؛ إنه أحد أهم التطورات في المنطقة برمتها منذ عملية طوفان الأقصى وأحد هزاتها
الارتدادية.
ورغم الديناميات الداخلية المعروفة، من قبيل المواجهات السابقة بين النظام
والمعارضة، واستمرار استهداف النظام لإدلب (المنطقة الوحيدة الباقية من مناطق خفض
التصعيد)، وتكدس المدنيين فيها، إلا أن الظروف الإقليمية والدولية ذات حضور ملموس -دائما-
في المشهد السوري، من حيث التأثر والتكيف والاستثمار.
من هذه الزاوية، من المهم النظر لمواقف القوى الإقليمية والدولية المنخرطة
في القضية السورية بالقدْر نفسه الذي تبحث فيه الديناميات الداخلية، إذ لطالما كان
لهذه القوى تأثيرات مباشرة وغير مباشرة عليها منذ اندلاع الثورة في 2011، بل كانت
هي المحدد الرئيس لمساراتها في السنوات الأخيرة.
وتعد
تركيا من الدول المهمة لاستطلاع أين تقف من هذه التطورات الجذرية
والمتسارعة، من حيث النظرة والموقف والدور والمصالح المتأثرة. فهي دولة جارة لها
حدود مشتركة على طول 911 كلم، فضلا عن وجودها العسكري في الداخل السوري، إضافة
لوجود ملايين السوريين المقيمين على أراضيها.
عملية "إدارة العمليات العسكرية" في الشمال السوري تحقق مصالح واضحة لأنقرة، بالضغط على الأسد لإعادة النظر في المسار السياسي الداخلي، وفي تطبيع العلاقات معها، وتغيير موازين القوى في سوريا بشكل يرجح كفتها ويجعلها هي -لا المليشيات المدعومة أمريكيا- من يملأ الفراغ الذي قد تتركه إيران والمليشيات المحسوبة عليها.
الأهم مما سبق، أن أنقرة إحدى الأطراف الضامنة لوقف إطلاق النار في
سوريا
ومناطق خفض التصعيد الأربع، التي استحالت مع هجمات النظام إلى منطقة واحدة في إدلب،
بل اضطرت لتفكيك عدة نقاط مراقبة في الشمال السوري؛ بسبب محاصرة قوات النظام لها.
وعلى مدى السنوات الماضية، لم يسجل المسار السياسي تقدما ملحوظا، ووضع النظام مسار
اللجنة الدستورية في الثلاجة، مستمرا في هجمات على إدلب أثارت مخاوف عدم الاستقرار
من جهة، وموجات جديدة من اللاجئين من جهة أخرى.
أضيفت لذلك دعوات أردوغان المتكررة للأسد لتطبيع
العلاقات وفتح صفحة جديدة بين البلدين، التي وُوجهت أحيانا بالتجاهل وأحيانا أخرى
بشروط مسبقة، مثل الانسحاب من الأراضي السورية، ووقف الدعم للمعارضة السورية
المسلحة.
علاوة على كل ذلك، يركز الخطاب الرسمي التركي منذ
أشهر على فكرة أن العدوان "الإسرائيلي" الذي بدأ في غزة وامتد للبنان، مرشح للاستمرار في سوريا وصولا لتركيا، التي قال أردوغان؛ إن القوات
"الإسرائيلية" تبعد عنها ساعتين ونصفا فقط، فضلا عن الإشارة لإمكانية
استهداف الأراضي التركية مباشرة.
دفع ذلك للتقدير بأن تتجه أنقرة لخطوات ملموسة تجاه
هذا التهديد، وقد توقعنا في مقالات وأوراق سابقة، أن تكون إحداها عملية عسكرية في
الشمال السوري لمكافحة الكانتون الذي تديره قوات سوريا الديمقراطية، أو لزيادة
مساحة نفوذها في شمال غربي سوريا. كما أنها بدأت الحديث الرسمي عن ضرورة حل
المسـألة الكردية الداخلية تحت عنوان "تمتين الجبهة الداخلية".
تضاف لذلك تطورات دولية وإقليمية، في مقدمتها انخراط حزب
الله و"محور المقاومة" في جبهات الإسناد لغزة وتراجع حضورهم نسبيا في
سوريا، فضلا عن الخسائر التي تكبدوها والعلاقات المتوترة مع النظام، وما يعنيه ذلك
من فرصة لملء الفراغ، لا سيما مع وجود خطة أمريكية- غربية لحصار المحور وقطع طرق
إمداده. ومنها كذلك فوز ترامب وما يمكن أن يعنيه ذلك لأنقرة من فرص (الانسحاب من
سوريا؟)، وتهديدات (ترسيخ "الدويلة الكردية"؟) محتملة، لا سيما على هامش
الحرب المستمرة في المنطقة.
يعني كل ما سبق، أن عملية "إدارة العمليات
العسكرية" في الشمال السوري تحقق مصالح واضحة لأنقرة، بالضغط على
الأسد
لإعادة النظر في المسار السياسي الداخلي، وفي تطبيع العلاقات معها، وتغيير موازين
القوى في سوريا بشكل يرجح كفتها ويجعلها هي -لا المليشيات المدعومة أمريكيا- من
يملأ الفراغ الذي قد تتركه إيران والمليشيات المحسوبة عليها، وما يضعها كذلك في
موقف تفاوضي أفضل مع إدارة ترامب القادمة.
بهذا المعنى، فتركيا ليست معارضة للعملية من حيث
المبدأ، بل راضية بها، وربما منحتها ضوءا أخضر لم يكن موجودا سابقا قبل نضوج الظروف
سالفة التفصيل إقليميا ودوليا، لا سيما وأن العملية فتحت الباب على إمكانية
استعادة مناطق مثل تل رفعت ومنبج التي سيطرت عليها قسد، على عكس التفاهمات السابقة
بين أنقرة وكل من موسكو وواشنطن؛ وظلت الأولى تلوح بعملية محتملة لإخراجها منها،
وهو ما حصل في عملية "
فجر الحرية" التي شنها "الجيش الوطني
السوري" المعارض.
رغم كل ذلك، من الصعب القول إن تركيا ترغب في رؤية
صراع صفري جديد في سوريا أو استمرار المعركة حتى النهاية، حيث إنها ركزت خطابها
السياسي في السنوات القليلة الأخيرة على فكرة أنَّ تراجع المواجهات العسكرية ينبغي
أن يترجم لحل سياسي، يرضي جميع الأطراف وينهي الصراع بشكل كامل. ذلك أن فتح حرب
شاملة وصفرية في سوريا، قد ينتج عنه سيناريو الفوضى الذي تتوجس منه أنقرة؛ لناحية
تأثيره السلبي على اقتصادها وإضراره بأمنها القومي، واحتمالات تفعيل ودعم مشروع
"الدولة الكردية"، وخصوصا مع التصريحات "الإسرائيلية"
المتكررة التي أشارت للمليشيات الكردية في سوريا كحليف وشريك.
ترى أنقرة أنه ما زال بالإمكان ضبط التطورات واستعادة الهدوء دون تصعيد موسع، والرجوع نحو مسار سياسي داخلي أي سوري- سوري، وآخر إقليمي- دولي بين كل من الولايات المتحدة وإيران وروسيا وتركيا، وبشكل أكثر تحديدا ضمن تفاهمات ثنائية بين موسكو وأنقرة، ولكن هذه المرة بوضع تفاوضي أفضل للأخيرة.
كما أن ذلك من شأنه
توتير علاقاتها المتحسنة حديثا مع عدد من الدول العربية، وهو ما لا تريده بالتأكيد،
فضلا عن نظرتها السلبية أو أقله المتوجسة لهيئة تحرير الشام -الركن الرئيس في
"إدارة العمليات العسكرية"-، التي لا تملك نفوذا كبيرا عليها على عكس
"الجيش الوطني السوري".
كما أن تركيا لا تريد استعادة منطق الأزمات والمواجهة
مع روسيا أو الولايات المتحدة، بل لعلها رأت في العملية مشكلة يمكن أن تؤدي لحل
أزمة بعد إعادة طرحها على الطاولة، ولذلك فقد كانت التصريحات الرسمية التركية
متحفظة في تأييد العملية -وإن حمّلت مسؤولية تدهور الأوضاع للنظام-، وأكدت ضرورة
استعادة الهدوء والحل السياسي.
وعليه، ترى أنقرة أنه ما زال بالإمكان ضبط التطورات
واستعادة الهدوء دون تصعيد موسع، والرجوع نحو مسار سياسي داخلي أي سوري- سوري، وآخر
إقليمي- دولي بين كل من الولايات المتحدة وإيران وروسيا وتركيا، وبشكل أكثر تحديدا
ضمن تفاهمات ثنائية بين موسكو وأنقرة، ولكن هذه المرة بوضع تفاوضي أفضل للأخيرة. ولذلك،
فقد كانت قنوات الاتصال مفتوحة مع كل روسيا وإيران، حيث أجرى وزير الخارجية هاكان
فيدان اتصالا هاتفيا مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، وسيستقبل اليوم الاثنين نظيره
الإيراني عباس عراقجي.
ختاما، رغم سرعة وضخامة التطورات الميدانية في الأيام
الثلاثة الأولى للعملية، ما زال من العسير التوقع الدقيق لمساراتها ونتائجها
ومآلاتها، ومدى ارتباطها و/أو تأثرها بمشاريع إقليمية ودولية أخرى، أمريكية في
المقام الأول. فقد مرت لحظة الصدمة وبدأت جميع الأطراف بإجراء تقييماتها
واتصالاتها وتنظيم خطواتها المستقبلية، ما يترك الميدان العسكري والسياسي مفتوحا
على سيناريوهات عديدة؛ سيكون من بين أهم العوامل المؤثرة فيها وترجيح أحدها، مواقفُ
الأطراف الإقليمية وتفاهماتها المحتملة، وتحديدا الثلاثي التركي- الروسي- الإيراني،
فضلا عن الجانب الأمريكي الغائب الحاضر في الخلفية وفي قلب الأحداث.
x.com/saidelhaj