كان
لطارق بن زياد أن يحرق سفن العبور إلى حيث يصنع النصر وحتى يقطع تعلّق جنده بفرصة
النجاة إذا تعذّر النصر؛ لأن الإنسان بطبيعته يحبّ حفظ خطّ الرجعة ويحسب حسابات
العودة عند اكتشافه أنّه وقع في حالة طيش ولم يحسب للأمور حساباتها، أو أنّه قد
أخطأ في تقدير إمكانات المعركة وكان عليه أن يعود خطوة للوراء لإحسان العدّة
وإعادة ترتيب أوراق المعركة ليكون النصر أكيدا وحاسما بعد ذلك. فليس على المرء أن
يحقق الهدف من أوّل محاولاته، إن لم تتحقّق الفرصة من أوّل مرّة فقد تتحقّق في
المرّات القادمة. هذه حسابات العقل ومنطق القوّة، فالنجاة بالجيش وتحمّل جزء من
الخسارة خير من هذا التهوّر الذي قد يقود إلى خسارة الجيش كلّه وجني الخسارة
الكاملة والهزيمة الساحقة.
لم
يكن طارق بن زياد متهوّرا ولم يكن جبانا يمضي للأمام وعيون قلبه للخلف، بل كان
شجاعا مقداما ولا شكّ بأنّه أخذ للمعركة حساباتها ولا بدّ من أنّه درس جبهة عدوّه
جيّدا قبل أن يقدم على هذا العبور، وجاء هذا الفعل بأن يحرق السفن ليرتقي بجنده
إلى مستوى الشجاعة التي تجود بها نفسه، وليرسل أيضا رسالة حاسمة ساحقة لعدوّه أننا
جئنا برجال يحبون الموت والشهادة كما تحبون الحياة والسعادة.
المرّة
الأولى التي حرق فيها يحيى
السنوار سفنه عندما قرّر قرارا حاسما لا رجعة فيها بأن
ينطلق مع
المقاومة وأن يجعل كل حياته مرتبطا بها ارتباطا كاملا وعميقا وقويا، في
حينها حرق سفن دنياه الواعدة المنكرة لمأساته ونكبته، أرادت له حياة اللجوء أن
يتخرّج مدرسا وأن تستوعبه وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في حضنها
الدافئ،
كان قطار التطبيع العربي يسير مسرعا ويفتح أحضانه للمزيد من الدول العربيّة التي رضي الاحتلال عنها ورضيت عنه، وكان هنا أمام الشهيد خيار السلطة الزائفة، وأن يتحوّل إلى شخصيّة براغماتية معتدلة بالمفهوم العربي الهابط، يحظى بالقبول والرضى والسّفر والتنقّل في العواصم والفنادق مع خطاب ثوري ناعم تسمح به هذه المعادلات وتزيد من رصيد شعبيته حيث تطلّب الأمر، الخيار الثاني هو حرق كلّ هذه السفن والمضي قدما في مشروع التحرير والاشتباك مع هذا المحتلّ
وأن تقطعه عن موطنه الذي هُجّر منه بعد أن سيطرت عليها العصابات
الصهيونيّة سنة 48، أرادوا له أن يعيش المخيم بكلّ تفاصيله بعيدا عن مفتاح بيت
أبيه الذي ما زال معلّقا في صدر البيت وما زالت الحسرة تضرب أطنابها في صدر أبيه. هنا
كان لا بدّ له من حرق السفن التي تقطعه عن حقّه الذي يتلذذّ بخيراته ذاك الغاصب
المحتلّ، ثمّ إنّ هذا المحتل لم يكتف بما اغتصب سنة 48، جاءه إلى المخيم ليجعل من
حياته جحيما لا يطاق. حرق السفن وصار مجاهدا بامتياز
يذيق هذا العدوّ شرّ ما اقترفت يداه، أصبحت كلفة
الاحتلال عالية وكان ليحيى أن
يؤسّس لمقاومة جعلت من القطاع جحيما للاحتلال.
المرّة
الثانية: عندما تم الالتفاف على الانتفاضة الفلسطينيّة وأجهزوا عليها بمفاوضات
عبثية أمعنت في ضياع الحقوق الفلسطينيّة، كان لا بدّ من حرق السّفن والعمل على إنتاج
بناء ثوري يعيد القضية إلى معادلتها الأبيّة، شعب محتلّ واحتلال ومقاومة، وكان له
أن يقع في الأسر وأن يحمل المؤبّد على عاتقه، ونجح هناك في بناء أكاديمية عسكريّة
أمنية تقيم الأسس التنظيمية الصحيحة والقويّة، عندما تداعى الأسرى إلى انتظار
الفرج بعد توقيع اتفاقية أوسلو قال لهم الحديث الشريف: "إذا قامت القيامة وفي
يد أحدكم فسيلة واستطاع أن يغرسها فليغرسها". واستثمر حبسته الطويلة وعلى
مدار 22 سنة أعظم استثمار، طوّر الحياة الاعتقالية في المجالات الثقافية والتربوية
والأمنية والتنظيميّة، واشتغل في التأليف والترجمة والأدب، كتب الدراسات الهامة في
المجالين السياسي والأمني وكتب في المجال الادبي الرواية، وترجم كثيرا حتى أصبح
خبيرا متخصّصا في المشهد الإسرائيلي بكل تفاصيله السياسة والاقتصادية والاجتماعية
والأمنية وتراكيبه الحزبيّة والإثنيّة والعرقية وجذوره الأيدولوجية والفكرية، لقد
فهمهم أكثر مما يفهمون أنفسهم، وكان بذلك في سجنه مرابطا في مواقع الفكر والمعرفة
والقدرة العالية على الاستفادة منها لنفسه ولبني قومه.
المرة
الثالثة: بعد الإفراج عنه كانت قد تراكمت سفن كثيرة تحتاج إلى الحرق حتى تستمرّ
مسيرة مقاومة المحتلّ، هناك من تداعوا إلى رخاوة العمل السلطوي ورغد العيش، وهناك
من طغت على أدمغتهم حسابات الاحتلال وقوّته وجبروته وصعوبة مقارعته ومعادلات فنّ
الممكن السياسيّة، بصورة أخرى تزيّنت لهم روح الهزيمة بفهلوات الأفهام السياسيّة
التي تعي الواقع بواقعية غراماتيّة تقتضي مسايرته وتجنيبه الصراع أو حصره وفق
قواعد اشتباك ناعمة لا تسمن ولا تغني من جوع.
كيف رتّب له كل ما يلزم عسكريا وأمنيّا وتربويّا، وكيف اشتغل على إنتاج إنسان المقاومة ولوجستيات المقاومة إعدادا وتجهيزا وإتقانا وإبداعا؟ هنا يكثر الحديث لأنّ العمل كان كثيرا كمّا ونوعا، وما فاجأ به العالم يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
وفي
ذات الوقت كان قطار التطبيع العربي يسير مسرعا ويفتح أحضانه للمزيد من الدول
العربيّة التي رضي الاحتلال عنها ورضيت عنه، وكان هنا أمام الشهيد خيار السلطة
الزائفة، وأن يتحوّل إلى شخصيّة براغماتية معتدلة بالمفهوم العربي الهابط، يحظى
بالقبول والرضى والسّفر والتنقّل في العواصم والفنادق مع خطاب ثوري ناعم تسمح به
هذه المعادلات وتزيد من رصيد شعبيته حيث تطلّب الأمر، الخيار الثاني هو حرق كلّ
هذه السفن والمضي قدما في مشروع التحرير والاشتباك مع هذا المحتلّ على أسوأ ما
يراها في كوابيسه، فاختار الخيار الثاني دون تردّد وأخذ بإعداد العدّة الكاملة
لإنجاح هذا الخيار.
وهنا
وفي هذا المسار الذي اختاره لنا أن نتساءل: كيف رتّب له كل ما يلزم عسكريا وأمنيّا
وتربويّا، وكيف اشتغل على إنتاج إنسان المقاومة ولوجستيات المقاومة إعدادا وتجهيزا
وإتقانا وإبداعا؟ هنا يكثر الحديث لأنّ العمل كان كثيرا كمّا ونوعا، وما فاجأ به
العالم يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، يوم أكمل حرق السفن وعبر عبوره العظيم؛ ينبئ بحجم العمل الذي سبقه وينبئ بحقيقة القدرات العالية التي ضخّت جهدها والتي
نرى فيها بصمات هذا القائد بكلّ وضوح.
ما
أودّ قوله بعد استشهاده باختصار شديد؛ أن هذا القائد لم يكن بالإمكان أن يصل إلى ما
وصل إليه إلا بعد قرار حرق السفن، لقد حرقها وانتهى الأمر، وقد قطعت شوطا كبيرا في
حرب استنزاف طويلة وضعت دولة الاحتلال على محكّ البقاء أو الزوال. لقد دفعت
المقاومة والشعب الفلسطيني وكذلك محور المقاومة وبالذات اللبنانية مقاومة وشعبا؛
تضحيات جسيمة، ولا يمكن بعد استشهاد القادة أن تعود هذه السفن أو أن نلتفت إلى
الوراء بل نزداد إصرارا، لا مناص إلا بالمضيّ قدما إلى أن يقضي الله أمرا كان
مفعولا. الحياة التي تسر الصديق وتكيد العدا، حياة النصر أو الشهادة على خطى
شهدائنا العظام.