من حسن طالع المذيعة الشابة كليمنتين بافلوتسكي، أن
اللوبي الصهيوني في
فرنسا لم ينتبه إلى ساعة الحوار التلفزي التي سألت في أثنائها رئيس الوزراء السابق دومينيك دوفيلبان: “كيف تطالب الإدارة الأمريكية حكومة نتنياهو بوقف إطلاق النار، بينما تستمر في إمدادها بالمال والعتاد، بل وتعلن في أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، تقديم مساعدة جديدة لإسرائيل بأكثر من ثمانية مليارات دولار؟ أليس هذا محض نفاق أمريكي؟”.
سؤال عادي بريء، ولكن سطوة “الأنا الأعلى” الصهيوني على الوعي الغربي، سيّدا قيّما عليه في عقر بيته، توجب نعته بأنه سؤال استثنائي جريء؛ ذلك أن صهاينة فرنسا، بأصواتهم المتراوحة بين الصاعق والناعق والبكّاء والشكّاء، لو انتبهوا إلى المذيعة، لأوقعوها في المحنة التي أوقعوا فيها زميلها محمد قاسي، على نحو ما روينا هنا قبل شهور.
والدليل على “خطورة” هذا السؤال المنطقي، الذي لا يستدعي، لبداهته، لحظة من تفكير، أن القيامة قامت على الرئيس ماكرون عندما قال بعد ذلك بأيام: “أرى أن الأولوية هي العودة إلى الحل السياسي، ووقف إمدادات الأسلحة التي تستخدم لخوض الحرب على
غزة”.
وقد اضطر للشرح في قمة الفرانكوفونية، أنه “لا يمكن المطالبة بوقف إطلاق النار، مع الاستمرار في إمداد أسلحة الحرب”.
وهذه، كما ترى، لغة دبلوماسية مهذبة. فهو لم يستخدم كلمة نفاق، ولا حتى تناقض، وإنما حاجج بأن المسألة “مسألة تماسك”، قاصدا بالطبع التماسك المنطقي الذي هو نقيض التهافت والتناقض.
ولكن من علامات سيادة الأنا الأعلى الصهيوني على البيت الإعلامي الفرنسي، أن جميع الضيوف، بل وجميع المذيعين، قد أجمعوا في كل البرامج الإذاعية والتلفزية الكثيرة التي تابعتها أن ماكرون، مذنب: كيف يقول هذا وإسرائيل المسكينة تحارب على ثلاث جبهات؟
كيف يقول هذا وقد انطبع في طبائع الأشياء، قبل البيغ بانغ، أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن النفس ضد الأعداء الكُثر الذين يريدون محوها من الوجود، لا لسبب إلا حسدا وحقدا من عند أنفسهم؟
أما أمْيَلُ الضيوف والمذيعين إلى الرأفة، فقد حكموا بأن التوقيت خطأ، إذ ما كان لماكرون أن يقول ما قال عشية ذكرى “بوغروم” 7 أكتوبر.
ولم يكن يُسمع طيلة أيام في جوقة قطيع الطاعة هذه من صوت نشاز، إلا ما صدر عن ضيفين إسرائيليين من أصول فرنسية، مما يؤكد حقيقة أن الإعلام الغربي أجبن من الإعلام الإسرائيلي وأكثر ملكية من الملك! قال أحدهما؛ إن ماكرون من أصدق أصدقاء إسرائيل، وقد تزايدت المبادلات التجارية والتكنولوجية بين فرنسا وإسرائيل في عهده بثلاثين في المائة، وما قاله بشأن وقف إطلاق النار منطقي جدا، بحيث إني أستنكر استنكاركم!
إلا أن كل هذا كوم، وآخر شطحات الدجال برنار هنري-ليفي كوم آخر. أقضّ مضجعَه ما ثبت عليه دوفيلبان، طيلة عام كامل، من مطالبة بوقف الإبادة والتدمير في غزة وإحقاق كامل الحق الفلسطيني، ومن تذكير بضلالات نتنياهو وحلفائه من غلاة الاستعلائية العنصرية اليهودية، فقرر أن يبيض بيضة ذهبية.. من السخافة الصبيانية، حيث زعم على قناة “إل سي إي”، أن عند دوفيلبان والسياسي اليساري جان-لوك ميلنشون وأمثالهما “كراهية تنبعث من أعماقهم”.
سأله المذيع: كراهية من؟ قال: “كراهية إسرائيل وما تعنيه، أي اليهود. أي نعم، كراهية وحنق وزبد ينقذف من أفواههم (..). لقد صار هؤلاء على شفا الشكل المعاصر من العداء للسامية، حيث لم يعد من الممكن القول؛ إن اليهود قتلوا المسيح أو إنهم يمثلون عرقا منعزلا، وإنما صار يقال إنهم كريهون لأنهم حلفاء دولة نازية وإباديّة هي إسرائيل”.
طلب دوفيلبان من القناة حق الرد. كان كعادته كيّسا متزنا، مع تلك الحيوية المحبّبة في الأسلوب، وذلك الشغف الأصيل في الحِجاج.
فقال؛ إن الافتراء والكذب ينسفان أساس النقاش الديمقراطي، وإن على ليفي، باعتباره شخصية شهيرة، أن يلتزم ضبط النفس، فقد عرّف ألبير كامو الإنسان بأنه من يستطيع كبح جماحه، وإن النقاش لا يتعلق بمسألة يهودية أو إسرائيلية، وإنما الفيصل بيني وبين ليفي هو مسألة الحرب والسلام.
فأنا أناهض منذ أكثر من 25 عاما الحروب التي ناصرها هو في أفغانستان والعراق وليبيا والساحل، إلخ. وما هي العواقب؟
وهنا أخاطب ليفي المثقف: انظر خلفك، فليس ثمة إلا الخراب والقتلى والأشلاء. ثم ختم قائلا؛ إنهم يريدون النصر لإسرائيل، ولكن لأي غاية؟ فالحل السياسي ليس مبتغاهم، أما العدالة، فهي غائبة تماما عن تصوراتهم.
القدس العربي