حلت الذكرى السنوية الأولى لطوفان الأقصى، التي تهدد بالتحول إلى حرب إقليمية، إن لم تكن قد تحولت، وهي مناسبة للوقوف على أبرز النتائج السياسية والأخلاقية والعسكرية وسيناريوهات المستقبل، التي تهم العالم العربي والإسلامي وتمتد إلى الجنوب وعلاقته بالشمال.
ولعل الملاحظة الأبرز التي أدهشت الجميع هو استمرار طوفان الأقصى في المقاومة منذ سنة، رغم التقتيل والتدمير الوحشي من طرف إسرائيل. وهذا يعني أن هذه المرة قد تحولت مواجهة الفلسطينيين ضد المحتل الإسرائيلي إلى حرب تحرير حقيقية، ممتدة في الزمن بإيقاع مكثف وقوي بعدما كانت في الماضي عمليات فدائية متقطعة في الزمن، وانتفاضات مدنية مثل الانتفاضة الشهيرة «انتفاضة الحجارة».
وبهذا، يسطّر الفلسطينيون ملحمة أخرى في مسيرة ملاحم مواجهة الاستعمار المقيت، ويضيفون صفحة أخرى إلى صفحات شعوب الجنوب التي واجهت الاستعمار في الماضي. ولعل ما أثار انتباه العالم كذلك أنه بقدر ما يصمد الشعب الفلسطيني، تقوم الآلة الإسرائيلية بممارسة حرب الإبادة وحرب الجبناء، بقتل أعلى نسبة من المدنيين، خاصة الأطفال والنساء.
ارتباطا بحرب الإبادة وحرب الجبناء، لم يتردد الغرب، الذي يحمل يافطة ولافتة «حقوق الإنسان» في تبرير الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل، وذلك عبر دفاع مزدوج، تزويد الكيان بالسلاح الفتاك، ثم الدفاع عنه للتهرب من محاكمة دولية بسبب جرائم الإبادة. والمفارقة هو كيف وضع الغرب نفسه في مأزق أخلاقي تاريخي، بين مواقفه في حرب أوكرانيا ضد روسيا، ومواقفه في دعم إبادة الفلسطينيين. إنه نسخة مشوهة، ولكنها سياسية وحقيقية، من رواية «الدكتور جيكل ومستر هايد» للويس ستيفنسون.
إن موقف الغرب في العمق يتجاوز دعم كيان حليف في الحرب إلى تأكيد الاستمرار في تطبيق مخطط يعود إلى قرون بروح صليبية، وهو ضرب وحدة العالم العربي والإسلامي وفق منظور صراع الحضارات. وإذا كان بالأمس هو الاستعمار المباشر، فاليوم يجري تنفيذ المخطط عبر زرع كيان مثل إسرائيل، لمنع هذا العالم العربي من تقنيات التطور العلمي والوحدة، حتى لا ينشأ ويترعرع جنوب الغرب، حزام عسكري وسياسي قوي وموحد، بل كيانات مشتتة ومتفرقة.
لقد أصبح مثقفو الجنوب المتحررين من رؤية الغرب يعتبرون 7 أكتوبر/تشرين الأول ما هو إلا فصل جديد، وهذه المرة معلن لمسلسل حرب الحضارات، التي يصر الغرب على تطبيقها سرا وعلنا، وفق الظروف، رغم سعي الأمم إلى علاقات دولية قائمة على السلام والحوار.
يشكل 7 أكتوبر منعطفا لافتا في جانبه العسكري، لا يتعلق الأمر فقط بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بل بمنعطف يهم العالم. لقد كشف هذا الحدث الكبير كيف فشلت الاستخبارات الإسرائيلية بشتى فروعها في رصد مخطط المقاومة الفلسطينية، وانهارت أسطورة الموساد وآمان وبرامج مثل بيغاسوس.
غير أن اللافت هو أنه لأول مرة تحدث المواجهة بين إسرائيل المجهزة بأسلحة غربية، خاصة الأمريكية وحركات المقاومة وإيران، التي تصنع أسلحتها بنفسها. ونتساءل: هل تستطيع إسرائيل الصمود إذا لم تتوصل بالأسلحة الغربية للاستمرار في الحرب؟ سيكون الجواب بالنفي، لا تستطيع لأن كل ما قيل عن عبقرية الصناعة العسكرية الإسرائيلية تبين مدى هشاشته في هذه الحرب الحقيقية.
فمن جهة، لا تستطيع إسرائيل بمفردها الرد العسكري على هجمات إيران، التي نفذتها يوم الفاتح من أكتوبر، وتحتاج إلى الدعم العسكري الأمريكي، ومن جهة أخرى لا تستطيع أنظمتها الجوية الصمود إلى الأبد أمام الصواريخ الإيرانية واليمنية وحزب الله، وبالتالي هرعت الأساطيل الغربية لحماية إسرائيل، وهذه الأساطيل هي التي تولت اعتراض غالبية الصواريخ التي أطلقتها إيران ليلة 14 أبريل/نيسان الماضي والفاتح من أكتوبر الجاري.
وارتباطا بالجانب العسكري دائما، تبين مدى الدور الكبير للصاروخ المصنوع في الشرق الأوسط، في إيران واليمن ولبنان، في إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة مستقبلا، بفضل السبق في صناعة صواريخ فرط صوتية ستخلق التوازن للتفوق الإسرائيلي بفضل المقاتلات التي تمنحها الولايات المتحدة لإسرائيل.
لقد أصيب خبراء الغرب في مجال الأسلحة بالذهول، وهم يرون كيف أصبح اليمن، الذي يمر في ظروف اجتماعية صعبة، ثاني دولة في تاريخ الحروب تستعمل صاروخا فرط صوتي، بينما فشلت دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا في تطوير هذا النوع من الصواريخ.
وتضاعف الذهول بعد عملية الفاتح من أكتوبر، وكيف امتلكت إيران الجهوزية لإطلاق أكثر من 200 صاروخ باليستي وفرط صوتي مرة واحدة، في أكبر عملية ضرب بالصواريخ في تاريخ الحروب.
وفي امتداد لهذا الجانب العسكري كذلك، ترى إسرائيل نفسها كيف أصبحت تحارب أطرافا لم تخطر على بالها حتى الأمس القريب. فهل كانت تتكهن مثلا في شن الحوثيين هجمات على موانئ ومدن الكيان انطلاقا من الأراضي اليمنية؟ وهل كانت تعتقد في نجاح الحوثيين في منع سفنها من المرور من باب المندب؟ وهل كانت تعتقد تعرضها لهجمات من طرف حركات المقاومة العراقية؟ لم تكن تنتظر هذا.
وها هو طوفان الأقصى يعزز أسلوبا جديدا من الحروب وهو تعويض حركات المقاومة لدور الجيوش النظامية العربية التي أصبحت المهام المنوطة بها هو قمع الشعوب العربية وأحيانا المساهمة في الدفاع عن أمن الكيان الإسرائيلي.
وعليه، تعتبر القضية الفلسطينية ذات بعد عالمي ويكفي رؤية كيف يشهد العالم تظاهرات في مختلف القارات، على الرغم مما يبذله اللوبي الصهيوني – الغربي من محاولات تزييف الواقع ببروبغاندا مكثفة. هذا على مستوى مشاعر التضامن، غير أن هذه المرة سجلت القضية الفلسطينية قفزة نوعية بعدما تحول طوفان الأقصى إلى منعطف تاريخي بطابع صراع الحضارات، جاء ليوقظ الجنوب الآخذ في بلورة وحدة صفوفه في مواجهة غطرسة الغرب.
ملاحظة على الهامش: شهدت العاصمة الرباط يوم 6 أكتوبر أكبر التظاهرات العالمية تضامنا مع فلسطين ولبنان، وسجل المغرب أعلى نسبة من التظاهرات في العالم بأكثر من ألف تظاهرة منذ انطلاق طوفان الأقصى.
والحديث عن هذا ليس من باب التنافس في الأرقام، بل لأن هذه التظاهرات هي هزيمة للوبي الصهيوني الذي راهن منذ سنوات على ضرب روابط المغرب بقضايا الشرق الأوسط، وعلى رأسها القضية الفلسطينية بحملة مكثفة ومنسقة لم يتعرض لها بلد عربي آخر. وتأتي هذه التظاهرات في المغرب لتبرهن أن شعب المغرب معدنه أصيل في الإيمان بقيم التضامن مهما حاول الصهاينة وأذنابهم.