عام مر على القرار الذي يغير المنطقة، ففي مثل هذا اليوم منذ 365 يوما
انطلقت طلائع
المقاومة باتجاه مغتصبات محيط غزة، ولعل الوضع على الأرض تجاوز
الأهداف التي وضعت لعملية طوفان الأقصى، وهو الاسم الذي اختارته المقاومة أو
بالأحرى ما بشّر به السنوار قبل عام من بدء العملية في السابع من تشرين الأول/
أكتوبر 2023، فإن كان الهدف من العملية هو انتزاع بنوك المعلومات من أهم فرق جيش
الاحتلال في رعيم، وكرم أبو سالم، وزيكيم، لكن الهدف الاستراتيجي للعملية هو فرض
معادلة ردع هجومية تبادر فيها المقاومة، ولا تكون ردة فعل، ومن ثم الهدف الأهم هو
عودة القضية
الفلسطينية إلى الواجهة بعد أن هُمِّشت بفعل فاعل.
لقد قرر السنوار بعملية طوفان الأقصى أن يغير المنطقة، التي باتت متناغمة
رسميا مع التطبيع مع الاحتلال، رغم الرفض الشعبي، الذي بدأ بالتراجع، ويعول مهندسي
التطبيع على عامل الوقت لصهره في بوتقة التعايش مع العضو الغريب في جسد الأمة،
وأنفق مهندسو العملية مليارات الدولارات منذ سنوات على الإعلام لتدجين الجيل
الحالي، وعلى التعليم لتنشئة جيل جديد يقبل الاحتلال، ويتعايش معه، لكن السنوار
ورفاقه أرادوا أمرا آخر، فالعملية ضربت هذا الجهد في مقتل حتى أصبحت المليارات
التي أنفقوا؛
أهم ما كشفت عنه عملية طوفان الأقصى هي عورة الفكر العربي وانجراره خلف توجهات إعلامية واستخباراتية، من المؤكد أن لها أهدافا، تحيد بالعقل العربي عن الطريق، ولا تخدم مستقبل هذه الأمة، بقدر ما تخدم أصحاب مشاريع من يريدون استغلال هذه الأمة
عليهم حسرة، وضربت معها جهود التطبيع، وضربت صفقة القرن، وكشفت
العملية أيضا عن الحلفاء الحقيقيين، كما كشفت عن المرجفين، وكذا المتأرجحين. لكن
أهم ما كشفت عنه عملية طوفان الأقصى هي عورة الفكر العربي وانجراره خلف توجهات
إعلامية واستخباراتية، من المؤكد أن لها أهدافا، تحيد بالعقل العربي عن الطريق،
ولا تخدم مستقبل هذه الأمة، بقدر ما تخدم أصحاب مشاريع من يريدون استغلال هذه
الأمة.
لقد كشفت عملية طوفان الأمة عن حالة الشقاق التي تعيشها الأمة، ولأنني قطعت
على نفسي عهدا ألا أخوض مع الخائضين، فسأشير لما هو واقع دون الدخول في تفاصيله،
والمقصود هنا صول حالة الخلاف إلى مرحلة التلاسن بين من انكوى بنار محور إيران،
كما يسمونه، وبين من يرى أن الاحتلال الإسرائيلي هو الخطر الأعظم على الأمة، دون
أن يحاولوا السماع للأصوات التي ترى شرور كليهما، فلم يعذر بعضهم بعض، ولم يسعيا
للتعاون فيما اتفقا فيه، حتى وصل الأمر إلى النظر في الدم والتفرقة بينه، وزايد
البعض على الآخر، في ملهاة لم تشهدها الأمة من قبل، ولعلها لم تشهدها، لواقع حال لم
تعشه الأمة في تاريخها، كما أن المؤثرات والمؤثرين لم يكونوا على المستوى الذي
عليه في زمننا هذا، سواء على مستوى العمل المخابراتي أو الإعلامي التقليدي
والاجتماعي كأذرع للأول.
يضاف إلى مشكلات الأمة التي لا تخفى على أحد، التي كتبنا عنها في مقال (ما
يهمنا من صواريخ إيران على تل أبيب)، أنه وعلى المستوى الشعبي، وفي ظل حالة الجدل
الدائر بين الفريقين سالفي الذكر، تجد أن الأمة على المستوى الشعبي تفتقد إلى
آليات الحوار، حتى وصل الأمر إلى انجرار الأمة إلى ما يشبه تشجيع فريقين في مباراة
لكرة القدم. يغلب على الجماهير حالة التحيز غير الواعي، المدفوع بغريزة التوحد
بالجماعة، دون تحسس مواضع الأقدام، ولا مآلات الخطوات، في ظل عتمة الطريق، وافتقاد
الحادي، فلا المشروع واضح، والقائد منبه، ولا أحد يعلم أن يذهب قطار الأمة.
وقد يقول قائل إن مجتمعاتنا ما زالت تعيش حالة صدمة ما بعد ثورات الربيع
العربي في بلدانه، وحالة الدمار الكبير الذي يحدثه الاحتلال في فلسطين الآن، وهو
في ذلك محق، لكن العتب هنا لا يقع على الشعوب، قدر ما يقع عل نخبها الثورية أو
القيادية؛ التي لم تؤهل الشعوب لقبول الآخر، واستفادة من حالة الرفض لكل ما هو آخر.
على الرغم من أن مقولة "إن لم يكن لك مشروع فأنت مشروع غيرك" قد
تقطعت أشلاء على ألسنة من يتصدرون المشهد في هذه الأمة، إلا أنها لا تجد لها
تعريفا في قاموس خطاب هذه القيادات، ومن ثم يستفيد المتداعون على قصعتنا من انعدام
المشروع، بل ويكسبون الأرض من خلال خطاب إعلامي يرسخ هذا الفقد. وتزيد من وحشة
الطريق حيلة صغيرة ومتكررة يلعبها الإعلام في زمن الفضائيات والوصول لكل شبر على
هذه المعمور، لا سيما في القضايا المفصلية والمصيرية. يمارس الإعلام عليك عزيزي
القارئ لعبة التشتيت والإلهاء، فحديث العقلاء عن الخطط الاستراتيجية لهذه الأمة؛
يقابله الإعلام بقضايا جزئية لتشتيت المتلقي وحرفه عن الكليات، بل ويصنع له من
القصص الإعلامية والخبرية ما يلهيه عن أصل الأزمة، فيستغرق في القصة المفتعلة،
وقبل أن يفيق تصنع له قصة جديدة، ومن قصة لقصة، تغوص أقدام الأمة في بحر الرمال
المتحركة بفعل تسارع الأحداث.
حال الأمة لا يخفى على ذي نظر، فحالة تماهي الناس مع اللاوعي؛ وعدم الرغبة في الخروج منها، في ظل الهوى المتبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه، يحتم على الجميع أن ينهض، وخاصة أصحاب الفكر والقلم، وأن يهب العلماء والمفكرون، وقادة الرأي والمصلحون، للتصدي لهذا الاعوجاج فيقوّموه، وفك الالتباس والاشتباه، ورسم الطريق ويبينوه، وعلى أصحاب الرؤى الاستراتيجية أن يجتمعوا لوضع الخطط ويحددوا الخطوط ويضعوا الأولويات
أزمة الحوار في الأمة إنما هي أزمة ثقافة وإدراك وتشبث بأهداب الهوية، ثم
إنَّها أزمة أحدثتها فجوة التراث والحداثة، ومن ثم التخندق عند حدود الأزمة دون
النظر إلى أبعادها، وهو ما وصفه مالك بن نبي بالقصور في إنتاج الأفكار القادرة على
النهوض بالحضارة، وهو بالنتيجة ناتج عن فقدان الرؤية الشمولية، وفقدان الوعي
بالأبعاد، ما يجعل الأفراد يتقهقرون من مفهوم الدولة والأمة، إلى التمترس بالقبيلة
والعصبية، كما يرى ابن خلدون في مقدمته، فما إن تبدو لنا بشائر الفجر، حتى نعود
لنخلد إلى الثبات، ولا نهب لنتلمس الطريق مستفيدين من الغسق، فنركن إلى خطاب
التهوين والتكفير والاتهام بالعمالة، دون أن نترك مساحات الرأي والفكر.
ولعل ما زاد من هذه الأزمة مساحات الرأي التي أتاحتها وسائل التواصل
الاجتماعي، التي أتاحت للعواطف أن تسود وللأفكار أن تتقهقر، يهزمها الاعتداد
بالرأي وطغيان الأغلبية والدكتاتورية، وهو ما يخلق تمحورا حول الذات، وفرض الرأي
وعدم رؤية الآخر مساحات التقاطع أو الالتقاء. وهنا، قد يستحق العامة اللوم، لكن
اللوم الحقيقي يقع على نخب هذه الأمة ومفكريها وصانعي الوعي.
إن حال الأمة لا يخفى على ذي نظر، فحالة تماهي الناس مع اللاوعي؛ وعدم
الرغبة في الخروج منها، في ظل الهوى المتبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه، يحتم على
الجميع أن ينهض، وخاصة أصحاب الفكر والقلم، وأن يهب العلماء والمفكرون، وقادة
الرأي والمصلحون، للتصدي لهذا الاعوجاج فيقوّموه، وفك الالتباس والاشتباه، ورسم
الطريق ويبينوه، وعلى أصحاب الرؤى الاستراتيجية أن يجتمعوا لوضع الخطط ويحددوا
الخطوط ويضعوا الأولويات موضعها من الترتيب اللازم في ظل الظروف والمحددات، غير
متناسين ظروف الإقليم، فيفككوا خطط العدو ويضعوا لها طرق المواجهة، والاستفادة من
طاقات الأمة البشرية اللا متناهية، وعلى رأس هذه الطاقات الكوادر الإعلامية وصناع
الرأي وقياسييه. فالسنوار الذي أراد أن يغير المنطقة، لن ينجح لو قام ذلك بنفسه أو
مع جماعته، فالمعركة هي معركة الأمة، وعلى الجميع أن يستعد للطوفان القادم قبل أن
يبتلعه.