قضايا وآراء

سلسلة جبال الدحدوح

إبراهيم الطاهر
لم تثنه الإصابة عن الاستمرار في التغطية- إكس
لم تثنه الإصابة عن الاستمرار في التغطية- إكس
مريض منذ عدة أيام وأتابع عملي الصحفي قدر الإمكان وأرد على الرسائل وبعض الاتصالات الخاصة بالعمل حسب "مفعول المسكنات التي أوصى بها الطبيب"، لا سيما الرسائل والاتصالات التي تتعلق بالتغطية الصحفية للعدوان الإسرائيلي الدموي على قطاع غزة المستمر منذ 96 يوما، والذي راح ضحيته أكثر من 23 ألف شهيد بينهم 109 صحفيين، ونحو 60 ألف مصاب، وخلّف كارثة إنسانية غير مسبوقة ودمارا "نوويا" في جميع أنحاء القطاع الذي يعيش فيه نحو 2.2 مليون إنسان على مساحة لا تتجاوز 365 كيلومترا مربعا.

المرض مؤلم بطبيعة الحال ونتغلب على آلامه أو نتعايش معها، غير أن أكثر ما آلمني أثناء وجودي في المستشفى ولا يزال؛ هي مشاهد وداع الزميل الصحفي والإعلامي وائل الدحدوح لابنه الصحفي حمزة الدحدوح برفقة زميله الخلوق المبتسم مصطفى ثريا بعد استشهادهما في قصف إسرائيلي غاشم استهدف سيارة الصحفيين غرب مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة؛ أثناء عودتهما من مهمتهما الصحفية.

الألم لدى وائل مزدوج ومركب ومتوال ولا يقوى على حمله إلا من ألهمه الله الصبر ورزقه ثبات الجبال الرواسي، وكذلك شعور كل حر بألم وائل، فهو شعور بذلك الألم المركب الذي جمع بين وداع الابن الأكبر البار بوالده، والذي لحق بأمه وإخوته الشهداء؛ والزميل الشاب المقدام الصاعد الواعد الذي لحق برفيق المهنة المصور سامر أبو دقة وسائر الزملاء الشهداء الذين تجاوزوا المئة شهيد في أعنف عدوان يواجهه الصحفيون بالتاريخ.

أعرف زملاء صحفيين كثرا مهمومين بما يجري في غزة، ويواصلون العمل ليلا ونهارا لمتابعة التغطية الصحفية لهذه الحرب المدمرة في محاولة لنقل أحداثها وتفنيد ادعاءات الاحتلال ومزاعمه، بينما الصحفيون الأبطال في غزة يروون الحقيقة بدمائهم ويضحون بأنفسهم من أجل نقلها للعالم ولو على حساب أرواحهم؛ بل وأرواح أسرهم وعائلاتهم التي يستهدفها الاحتلال في محاولات يائسة للضغط عليهم ومنعهم من نقل هذه الحقيقة التي تؤلم المعتدين وأتباعهم وتدحض رواياتهم الزائفة.

فكلنا شاهدنا وائل الدحدوح يدفن زوجته وابنه محمود وابنته شام البالغة من العمر 8 سنوات الذين استشهدوا في قصف إسرائيلي استهدف منزلهم، ثم يعود للعمل بعدها بساعات قليلة ويظهر على شاشة الجزيرة ليواصل التغطية، ثم تكرر الأمر بعد استشهاد رفيق عمله المصور في الجزيرة سامر أبو دقة، ولم تثنه الإصابة عن العودة للتغطية، ولم يتغير الحال رغم قسوته عند استشهاد ابنه الأكبر الصحفي حمزة الدحدوح، حتى بات الدحدوح يوصف بجبل غزة التي تخلو تضاريسها من الجبال.

إن وائل الدحدوح وزملاءه الصحفيين في غزة باتوا يشكلون جبالا من الثبات الأسطوري ويبثون على الهواء مباشرة روح هذا الثبات لجميع زملائهم الأحرار حول العالم،

إن وائل الدحدوح وزملاءه الصحفيين في غزة باتوا يشكلون جبالا من الثبات الأسطوري ويبثون على الهواء مباشرة روح هذا الثبات لجميع زملائهم الأحرار حول العالم، ويشكلون بذلك ما يمكن وصفه وبلا مبالغة بـ"سلسلة جبال الدحدوح" والتي ستمتد لتتجاوز بطولها سلسلة جبال الإنديز (أطول سلسلة جبال في العالم وتمتد لأكثر من 8064 كيلومترا، وتمر عبر سبعة بلدان).

لا أحد حتى الآن يعرف متى ستنتهي الحرب في غزة، ولا حتى من اتخذ قرار بدء العدوان الغاشم، ولا أحد يعرف إلى أي مصير سيكون عليه قطاع غزة بعد انتهاء هذا العدوان وسط تكهنات وسيناريوهات كلما وضعها أصحابها نسفها أهل غزة الأبطال نسفا؛ حتى يفرضوا هم السيناريو الذي يريدونه شاء من شاء وأبى من أبى، لكن الكل يعرف الآن أن جميع أهل غزة بأطفالها وشيوخها ورجالها ونسائها وشبابها وفتياتها وصحفييها وأطبائها وكل أيقوناتها وكوادرها المهنية باتوا نبراسا للحق والعزة والصمود والتضحية والفداء والإباء؛ وكل كلمات اللغة التي تعجز عن وصف تضحياتهم في سبيل حرياتهم وتحرير مقدسات الأمة.

علامة مهنية على أن أصحاب القضايا العادلة من الصحفيين والإعلاميين يخلدون ولا يموتون حتى وإن طالتهم غارات الانتقام أو رصاص الظلم

لا أحد يعلم متى ستنتهي الحرب، لكن الكل يعلم أن طلاب غزة وتلاميذها الذين فقدوا عامهم الدراسي بسبب العدوان الإسرائيلي الغاشم، باتوا مصدرا لتعليم علماء الأمة ودعاتها ومفكريها ومنظريها وكتابها ومؤلفيها وصحفييها معاني ودروسا عملية تعجز ألسنتهم وأقلامهم عن وصفها. ويبقى على كل هؤلاء وغيرهم أن يردوا الفضل لأصحاب الفضل من أهل غزة؛ عليهم وعلى الأمة كل حسب تخصصه ومجاله.

ويا كل صحفي وإعلامي حر في أي بقعة من بقاع المعمورة، سواء كنت تنتمي لمؤسسة إعلامية أو تمتلك حسابا أو قناة على منصات التواصل الاجتماعي، خلّد وجودك وكن جبلا شامخا أو حتى هضبة عالية في "سلسلة جبال الدحدوح" التي تشكلت في غزة وستمتد لجميع أنحاء العالم، لتكون علامة مهنية على أن أصحاب القضايا العادلة من الصحفيين والإعلاميين يخلدون ولا يموتون حتى وإن طالتهم غارات الانتقام أو رصاص الظلم، فخير جهاد كلمة حق عند سلطان جائر.. ولتكن من الآن فصاعدا علامة خلودك في الدنيا في انتمائك لـ"سلسلة جبال الدحدوح".
التعليقات (0)