مقالات مختارة

استهلاك إنسان القرن العشرين أحدث أزمة بيئية

سعيد الشهابي
الحديث عن المناخ ليس جديدا فقد تحول إلى أمر مقلق منذ عقود- جيتي
الحديث عن المناخ ليس جديدا فقد تحول إلى أمر مقلق منذ عقود- جيتي
يقول آخر التقارير المناخية؛ إن درجة حرارة سطح المحيطات ارتفعت إلى 21.2 درجة مئوية منذ بداية شهر نيسان/ إبريل الماضي، وهي أعلى معدل لها منذ أن بدأت السجلات المناخية.

وتُظهر أحدث البيانات الصادرة عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، أن متوسط مستوى سطح البحر العالمي وصل إلى مستوى قياسي جديد في عام 2021، حيث ارتفع بمعدل 4.5 ملم سنويًا خلال الفترة من 2013 إلى 2021. إلى جانب الأعاصير المدارية الشديدة، أدى ارتفاع مستوى سطح البحر إلى تفاقم الظواهر المتطرفة مثل العواصف المميتة والمخاطر الساحلية مثل الفيضانات والتعرية والانهيارات الأرضية، التي من المتوقع الآن أن تحدث مرة واحدة على الأقل في السنة في العديد من المواقع. هذا الارتفاع ستكون له انعكاساته على نطاق واسع، ومنها تسارع ذوبان الكتل الجليدية وارتفاع منسوب المحيطات، وزيادة الأمطار في بعض المناطق، وهجرة بعض أنواع الأسماك من المناطق الدافئة.

الحديث عن المناخ ليس جديدا، فقد تحول إلى أمر مقلق منذ عقود، وبذلت الجهود للتعرف على أسبابه. وكان واضحا أن التطورات الصناعية والتكنولوجية وما يصاحبها من انبعاث الغازات وارتفاعها إلى الطبقات العليا في الجو، كل ذلك ساهم في التداعيات البيئية التي بدأت تنعكس على حياة البشر اليومية. في الثمانينيات كان الحديث يدور عن حدوث ثقب في طبقة الأوزون المحيطة بالغلاف الأرضي، وأن ذلك يؤدي لاختراق أشعة الشمس نحو الأرض بمعدلات أكبر، الأمر الذي يساهم في ارتفاع درجة حرارة الأرض. واتخذت يومها إجراءات من بينها الحد من استخدام غاز الكلوروفلوروكربون (سي أف سي)، المستخدم في القنينات المضغوطة وأجهزة التبريد. ووجهت الأصابع إلى الصين بأنها من كبار مستخدميه، وأنها مترددة في الحد منه. وتواصل السجال حول التداعي البيئي، وكتبت البحوث وصدرت الكتب وعقدت المؤتمرات على أمل الحد من ذلك التداعي، من خلال التوافق على سياسات تصنيعية تتفادى الإضرار بالبيئة. وبعد عقود من التداول في ظل توسع التداعي البيئي، تم التوصل في العام 2015 إلى ما يسمى «اتفاقية باريس»، وذلك إثر المفاوضات التي عقدت في أثناء مؤتمر الأمم المتحدة الـ 21 للتغير المناخي في باريس. وصدّق على الاتفاق وفود من 195 دولة حضرت المؤتمر. يهدف الاتفاق إلى حصر زيادة درجات الحرارة في العالم بأقل من درجتين مئويتين، وسيعمل الجميع لعدم تجاوز 1.5 درجة. وخصصت ميزانية قدرها 100 مليار دولار سنويا كمساعدات مناخية للدول النامية. واليوم، بعد ثماني سنوات من ذلك الاتفاق، لا يبدو أن التداعيات البيئية والمناخية تم احتواؤها، ولعل من أهم أسباب ذلك، عدم التزام الدول بمقتضيات اتفاقية باريس، وكذلك رفض بعض الدول الانضمام إليها، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية في عهد دونالد ترامب.

أين هي المشكلة إذن؟ فما دام العالم يعي الأزمة ويحدد بعض أسبابها، ويستطيع التعاطي معها، فلماذا لم ينجح العالم حتى الآن في احتواء الآزمات المناخية والتداعيات البيئية؟ لماذا يتكرر السجال الذي طرح قبل أربعة عقود من قبل الجهات نفسها؟

منذ حلول موسم الصيف الحالي، تصاعدت درجات الحرارة في مناطق عديدة من العالم بمعدلات غير مسبوقة؛ ففي منطقة الخليج والعراق وإيران، بلغت درجات الحرارة معدلات غير مسبوقة تصل الى 60 درجة مئوية. وقررت الحكومة الإيرانية تعطيل العمل في القطاعين العام والخاص بسبب ارتفاع درجات الحرارة، في حين أدى الإعصار خانون إلى مقتل شخصين وانقطاع الكهرباء عن 166 ألف منزل جنوب اليابان، وأجبر الشركات والمدارس على الإغلاق بشمال تايوان. وانتشرت الحرائق في الأرياف الأوروبية على نطاق واسع، حتى اضطرت شركات السياحة لاتخاذ خطوات سريعة لإعادة زبائنها إلى أوطانهم، من بلدان مثل إيطاليا وبعض الجزر في البحر المتوسط. وبدأ قطاع السياحة في بلدان مثل إسبانيا واليونان يتراجع بشكل مقلق، سيؤثر على اقتصاداتها بشكل مباشر. وفي العادة يصل الأستراليون والاسكندنافيون والبريطانيون والروس جميعًا بحثا عن طقس أكثر دفئا. فبعد انتهاء أزمة وباء كورونا، سعى الناس للعودة إلى حياتهم الطبيعية خصوصا في مجال السفر والسياحة. لكن هذا العام، أودت موجات الحر الشديدة بحياة المئات في بلدان عديدة، وقد تضررت دول أخرى حول البحر الأبيض المتوسط؛ ففي إسبانيا ارتفع مقياس الحرارة بمقدار 15 درجة فوق المستويات العادية لموسم الصيف. كما عانت إيطاليا من موجات الحر مع ذوبان جزيرة سردينيا تحت 48 درجة مئوية، بينما عانت تونس الأسبوع الماضي من 49 درجة مئوية. وتم إغلاق بطاقات الجذب السياحية الرئيسية مثل الأكروبوليس في أثينا. بل إن علماء المناخ أنفسهم مذهولون من شراسة الحرارة. ومن الملاحظ انتشار أجهزة التكييف على نطاق واسع في البلدان التي كانت حتى السنوات الأخيرة لا تحتاجها، ومنها بريطانيا التي نشأت قطاعات مختصة بصناعة أجهزة التكييف وتركيبها، ومن المؤكد أن انتشار هذه الأجهزة يساهم في إحداث خلل في التوازن الحراري.

أين هي المشكلة إذن؟ لماذا عجز البشر عن التوافق على سياسات فاعلة لاحتواء الأزمة البيئية والمناخية؟ ولماذا لم تستطع السجالات الدولية تحقيق الأهداف التي رسمتها الدول الكبرى سواء من خلال الأمم المتحدة والمنظمات المرتبطة بها، أم من خلال التواصل والمفاوضات الثنائية والإقليمية؟ تحدث العالم عن السعي للحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية كما ذكر أعلاه، ولكن لم يتحقق شيء من ذلك، ومن المؤكد أن تضغط هذه الحقائق على المشاركين في الدورة الثامنة والعشرين من مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ COP28، التي ستستضيفها دولة الإمارات (في مدينة إكسبو بدبي) خلال الفترة من 30 تشرين الثاني/ نوفمبر وحتى 12 كانون الأول/ديسمبر 2023. وسيجمع المؤتمر ممثلي نحو 197 دولة حول العالم. ونظرا لانعكاس الأزمة البيئية على البشر، فقد نشطت منظمات حقوق الإنسان الدولية في السجال بشأن ذلك. فقالت «هيومن رايتس ووتش»؛ إن «على الحكومات الاتفاق في ما بينها ضمن قمة المناخ القادمة، على الالتزام بالتخلص التدريجي من جميع أنواع الوقود الأحفوري للوفاء بالتزاماتها الحقوقية. ينبغي أيضا التأكد من أن الإمارات، البلد المضيف، ستعمل على السماح للمجتمع المدني بالمطالبة بحرية باتخاذ إجراءات بشأن المناخ قبل المؤتمر وفي أثنائه وبعده».

ومن خلال تجربة العالم مع الدورات الدولية حول المناخ، لا يبدو في الأفق ما يدعو للتفاؤل بإمكان احتواء الأزمة لأسباب عديدة من بينها؛ أن الأزمة تبدو أكبر مما يستطيع السياسيون استيعابه بسهولة، وأسرع انتشارا من أي محاولات دولية لاحتوائها. ثانيها؛ أن التعاطي الدولي مع المناخ والتداعي البيئي بطيء ومحدود، ويخلو من الجدّيّة التي تتطلبها أساليب احتوائها. ثالثها؛ أن المصالح الاقتصادية تحظى بالأولوية لدى هذه الدول، ولو كان ذلك على حساب محاولات احتواء الأزمة، وتحتل القضايا البيئية مراتب سفلى في جدول أولويات هذه الدول. رابعها؛ أن هناك مستوى عاليا من النفاق لدى الدول إزاء سياساتها من الأزمة، وكأن كلا منها يقول: الحل ليست مهمتي. فمثلا في الوقت الذي استضافت فيه بريطانيا مؤتمر المناخ (كوب26) بمدينة غلاسكو قبل عامين، لم تتردد حكومتها مؤخرا في منح الشركات رخصا لإصدار المزيد من النفط في بحر الشمال، برغم مطالبات نشطاء البيئة بالتوقف عن استخدام الوقود العضوي. خامسا: عدم تطبيق الإجراءات التي اتخذتها الدول حتى الآن، ومنها ما يسمى «الانبعاث الصفري»؛ أي إحداث توازن بين الكميات المنتجة من غاز ثاني أوكسيد الكربون والكميات المسحوبة من الجو، وكذلك تقليل نسبة الرصاص في وقود السيارات، وفرض ضرائب أكثر على استخدام السيارات في المدن، فالواضح أنها خطوات بطيئة وغير فاعلة، تركز على فرض الضرائب وليس على منع التلوث.

إلى أين يقود هذا السجال؟ إن احتواء الأزمة البيئية والتداعي المناخي مهمة كبرى عجز العالم حتى الآن عنها، ويتحمل مسؤولية الإخفاق في التعاطي معها البشر كافة، وليس الحكومات. وعليه، فإن عالم القرن الحادي والعشرين مهدد بالفناء نتيجة التداعي البيئي والتغيرات المناخية المدمّرة. فمن ينقذه من المصير غير السعيد الذي ينتظره، والذي تساهم رغباته ونزواته في التعجيل بحدوثه؟

(عن صحيفة القدس العربي)
التعليقات (0)