من حيث الشكل، هي انتخابات بلدية ذات طابع ديمقراطي وسلمي، لأنّ عمليات التصويت فيها جرت من دون إكراه أو تزوير. وأمّا من حيث المضمون الفعلي، فهي انتخابات ناقصة ومنتقَصة، لأنّ أرقام المشاركين فيها لم تتجاوز 1500 من أصل 45 ألف ناخب مسجّل، كما أنّ الرقم الأوّل يمثّل أقلية إثنية ألبانية، ولهذا فقد كان طبيعياً أن يتحدر الفائزون من صفوف تلك الأقلية؛ وأمّا الرقم الثاني فهو يخصّ أكثرية سكانية صربية قاطعت الانتخابات، ولهذا لجأت بعد إعلان النتائج إلى منع رؤساء البلديات الفائزين من تولّي مناصبهم في 4 بلديات، شمال
كوسوفو.
لم يتأخر اتساع نطاق الدراما فدخل الحلف الأطلسي على خطوط التوتر لأنه يقود بعثة حفظ السلام الدولية، المتمركزة هناك منذ العام 1999، ولأنّ المحتجين
الصرب هاجموا عناصر البعثة حين سعت إلى حماية رؤساء البلدية المنتخبين. ثمّ تدخلت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني لأنّ 3 من مواطنيها العاملين في البعثة جُرحوا خلال الاشتباكات الهجوم على بعثة الناتو؛ كما أدلى الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون بدلوه، فألقى بالمسؤولية على عاتق سلطات كوسوفو، التي لم تلتزم بنصيحته حول عدم المضيّ في إجراء الانتخابات.
أهل الشأن الظاهرون أنفسهم لم يقصروا، بالطبع، فقال رئيس وزراء كوسوفو إن من الطبيعي أن تكلّف حكومته عناصر الشرطة والجيش بمرافقة رؤساء البلديات المنتخبين وتنصيبهم في مكاتبهم؛ الإجراء الذي ردّ عليه الرئيس الصربي باستنفار جيشه ونشر وحدات عسكرية على الحدود مع كوسوفو. أهل الشأن غير الظاهرين، في موسكو على وجه الخصوص، لم يكتئبوا لأنّ ملفات
البلقان التي تخصّ الصرب ليست بمنأى عن خيارات الكرملين الجيو ـ سياسية ذات الارتباط بالمناورة مع الأطلسي؛ كما أنها عزيزة على الكنيسة الأرثوذكسية عموماً، وهذه عضيدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أينما تدخّل وكيفما اتخذت تدخلاته صفة دينية/ إثنية في آن معاً.
غير أنّ الوجهة الأخرى لقراءة مشهد التوتر حول حكاية الانتخابات البلدية الأخيرة، هي تلك التي تستوجب وضع الواقعة في سياق أوّل أعرض، هو نزاعات منطقة مشحونة أصلاً بالتوتر، والنيران فيها متقدة تحت الرماد الظاهر، ويمكن أن تتأجج لأيّ سبب وجيه أو عارض. وما جرى في تلك البلديات يظلّ من طراز القطرة التي تتكفّل بإفاضة الماء في إناء مليء طافح، عمره المرئي يمكن ردّه إلى سنة 2008 حين أعلنت كوسوفو استقلالها من طرف واحد، وهذا ما رفضته صربيا وما تزال؛ في حين أنّ عمره الأطول يرتدّ إلى قرون، على صلات مباشرة مع صراعات البلقان التي أشعلت نيران شتى في قلب أوروبا العجوز. سياق ثانٍ، ليس أقلّ مغزى أو أدنى عواقب، هو ميراث التدخل الأطلسي في كوسوفو وكرواتيا وصربيا، والبلقان التاريخي إجمالاً؛ وما يتقاطع معه، ويستكمله بمعنى زيادة السوء سوءاً، من سياسات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الخاطئة تارة والعشوائية تارة أخرى والحمقاء غالباً.
ومنذ وصول الحريق اليوغسلافي إلى إقليم كوسوفو، ظلّ الحلف الأطلسي يسعى إلى تحقيق «سلّة» أغراض متنافرة في الإقليم: بعضها «إنساني» الطابع من النوع الكلاسيكي (وقف عمليات التطهير الإثني، والحدّ من اتساع موجات التهجير والهجرة والنزوح)؛ وبعضها الآخر ستراتيجي لا يعبأ كثيراً بالثمن الإنساني الباهظ (تفادي انتشار الحريق إلى مقدونيا، تحجيم المفهوم الاستقلالي الذي كان يطرحه جيش تحرير كوسوفو ويرسل درساً خطيراً إلى الجوار، قطع الطريق على احتمالات مواجهة عسكرية بين
تركيا واليونان، وحصر التوتّر الإثني – الثقافي في هذه البقعة الضيّقة من خاصرة أوروبا لئلا تتوغّل نحو القلب)؛ وبعضها الثالث أغراض سياسية ودبلوماسية مباشرة، على رأسها إطلاق سيرورة تفاوض من أيّ نوع بين الصرب من جهة، وكلّ من الزعيم الكوسوفي المعتدل إبراهيم روغوفا (الذي رحل دون أن يرى أياً من ثمار اعتداله) وجيش تحرير كوسوفو من جهة ثانية.
على الأرض تبيّن سريعاً أنّ «السلّة» ليست قريبة من تحقيق أيّ من أغراضها المتباعدة المتدافعة تلك. مجازر، ومقابر جماعية، وعمليات أرض محروقة (أو بالأحرى «قرى محروقة» عن بكرة أبيها) وتطهير إثني بوسيلة التهجير المباشر وغير المباشر، وتصاعد للنقمة الشعبية، وتعاظم غير مسبوق في أعداد المنضمين الجدد إلى جيش تحرير كوسوفو؛ إلى جانب احتجاجات متواصلة على العنف الصربي، تصدّرت إطلاقها وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت طوراً، فضلاً عن دائرة مفرغة واظب المبعوث الأمريكي كريستوفر هيل على التنقّل فيها لا لهدف آخر سوى البرهنة على أنّ الدائرة مرسومة جاهزة أصلاً، وليس مطلوباً من الأطراف إلا أن تقفز إلى داخلها كي تتفاوض!
على الأرض أيضاً، في المقابل، ظلّت الأرقام تنطق بلغة أخرى جعلتها أصدق أنباء من كتب الولايات المتحدة، ومجلدات أوروبا، وأسفار الحلف الأطلسي: نحو ربع مليون من مسلمي كوسوفو هُجّروا بالقوّة إلى العدم والمجهول واللامكان؛ والآلاف من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين قبل، وأكثر بكثير، من الضحايا في فصائل المقاتلين؛ ومقابر جماعية لعشرات الضحايا. تلك كانت ثمار خيار «الكولاج» أو حلول التلصيق التي اعتمدتها الولايات المتحدة وأوروبا منذ اندلاع الشطر البلقاني من الحريق اليوغوسلافي. وهي كانت، وتظلّ اليوم أيضاً، مآلات سياسة تدفع في اتجاه التقسيم الفعلي على الأرض، بموجب قوانين الأمر الواقع، وتنحني ببساطة أمام منطق «الحرب الأهلية» الذي استُخدم لوصف ما جرى ويجري، تهرّباً من مواجهة المسمّيات الأخرى الأكثر بشاعة وإثارة للقلق، رغم أنها الأكثر دقة.
وكما في نموذج البوسنة والهرسك، حين دفع المسلمون البلقان ثمن سلام أهلي فرضه بالقوّة السياسية والعسكرية ذلك النوع المرتبك والسطحي والتقسيمي من «دبلوماسية الكولاج» كذلك توجّب على مسلم كوسوفو أن يكون وقود النار التي اشتعلت وتشتعل ولا يبدو أنها ستخمد في أيّ يوم قريب. صار الضحية شاء أم أبى، واستوى أن يكون علمانياً أم أصولياً أم مجرد مؤمن بريء برسالة سماوية؛ وسواء سار خلف اعتدال إبراهيم روغوفا، أو حمل السلاح خلف هاشم تاجي (رئيس الوزراء في حينه) أو راموش هاراديناي (رئيس الوزراء السَلَف، الذي سوف يُحاكم في لاهاي بتهمة ارتكاب جرائم بحقّ الإنسانية).
وأن يكون المرء مسلماً في كوسوفو أمر يعني انتماءه إلى دين سماوي وإلى إثنية قومية في آن معاً، وهو تفصيل حاسم يضيف تعقيداً شديداً على حقيقة أنّ كوسوفو هي روح صربيا الكبرى كما يؤمن الصرب، وهي الابنة التي أخضعها العثمانيون لسياسات تتريك قسرية، ولن يفوت أوان تعميدها من جديد مهما طال الزمن، كما تؤمن غالبية من الصرب. وهؤلاء لا ينطلقون من واقع الحال الراهن، أياً كانت مظانّه، بل بهديٍ من أشباح تاريخ يرتد إلى القرن الرابع عشر.
«أوّاه… أيتها الابنة التركية/ سيعمّدك رهباننا مهما طال الزمن!» تقول الترنيمة الشعبية – الدينية التي يرددها عشرات الرهبان، وربما عشرات الآلاف من المواطنين الصرب العاديين، صبيحة كلّ يوم. و«الابنة التركية» هذه ليست سوى إقليم كوسوفو، «أورشليم صربيا» كما سيقول الصربي الراهب، ويردّد معه الصربي المواطن العاديّ. المشكلة/ العقدة الكبرى أنّ النيران من حول الابنة هذه لا تخمد صباحاً إلا لتتقد مساء، من دون أن تتبدّل هوية وقودها: أبناء الإقليم على جانبَي التوتر؛ بل على جوانبه كافة، في الجوار القريب والبعيد.
(القدس العربي)