مقالات مختارة

فرنسا وضرائب المليارديرات: رأسمال يحتال وبورصة تتستر

صبحي حديدي
عربي21
في فرنسا هذه الأيام يحتدم نقاش حول وسائل مكافحة الاحتيال الضريبي لدى كبار الأثرياء والشركات العملاقة متعددة الجنسيات، وذلك في أعقاب إعلان وزير الحسابات العامة عن سلسلة إجراءات في هذا الصدد؛ هو الذي سبق له أن كشف النقاب عن أن 14.6 مليار يورو كانت حصيلة الحملة ضدّ التهرّب الضريبي في سنة 2022 المنصرمة فقط.

وقبل إعلان عزم الحكومة على تشديد القبضة في هذا المضمار، كان نحو 150 محققاً من وزارة المالية، بإشراف 16 قاضياً فرنسياً و6 من ألمانيا، قد داهموا مقارّ خمسة مصارف أساسية في فرنسا، في سياق الاشتباه بحرمان الخزينة العامة من عائدات ضريبية تتجاوز 100 مليار يورو.

ليس هنا المقام المناسب لاستعراض كامل الإجراءات التي أعلن عنها الوزير الفرنسي، ولا الجدوى من اعتمادها أو مدى ما ستسفر عنه من مكاسب للسلطات العامة وخسائر لجهات الاحتيال والتهرّب؛ ولكن يتوجب القول، من دون إبطاء، أنّ هذا التوجه الجديد للحكومة الفرنسية يسير على نقيض، تامّ أو يكاد، للسياسات التي اعتمدها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال خمس سنوات من فترته الرئاسية الأولى، وحتى اليوم في الواقع.

لا تُغفَل، أيضاً، احتمالات أن يكون اللجوء إلى التشدد مع المليارديرات والشركات العملاقة بمثابة مسعى لامتصاص احتقان الشارع الشعبي، الساخط حتى الساعة على قانون يرفع سنّ التقاعد إلى 64 سنة، وربما تصنيع سجال قد يتكفل ببعض الإلهاء وصرف الأنظار.

وذات يوم، غير مختلف السياقات وغير بعيد كثيراً في مقياس الزمن، سخرت أسبوعية «ماريان» الفرنسية من أوضاع المصارف في النظام الرأسمالي المعاصر عموماً وفي فرنسا تحديداً، فاعتبرت أنّ مآزقها لم تعد تقتصر على التهرّب الضريبي أو سوء سياسات الإقراض أو الاستهتار أو الإفراط في الجشع واستغلال المتعاملين، بل صارت تنجم أيضاً عن رداءة كبار مسؤولي تلك المصارف في حقل اقتصادي ابتدائي اسمه… علم الحساب! وكان التعليق اللاذع يتناول تعرّض مجموعة مصارف «صندوق التوفير» الفرنسية إلى خسارة مقدارها 600 مليون يورو، جرّاء قيام بعض موظفيها بمضاربات لصالح المجموعة، اتضح أنها جاهلة وخرقاء تماماً.

قبلها بسنوات قليلة، في نهار واحد ولكن ضمن فترة زمنية تقلّ عن 24 ساعة، حقّقت شركة الهاتف الفرنسية «فرانس تيليكوم» زيادة صافية في قِيَم أسهمها، بلغت 295 مليار فرنك فرنسي (قبل اعتماد اليورو كعملة وطنية وأوروبية). وتلك الزيادة المفاجئة، التي هبطت من السماء كما يُقال، لم تكن نتيجة صفقات أو إنجازات أو استثمارات أو أعمال مباشرة، بل تمّت بين ليلة وضحاها في سوق البورصة، «على الورق» كما يقول التعبير غير الفنّي، وضمن نطاق الـ»افتراض» كما يقول قاموس المعلوماتية.

والحكاية، في بساطتها المذهلة، أنّ المدير العام للشركة أطلق تصريحاً وجيزاً خلال اجتماع إداري، ثم أعاد التأكيد عليه في مؤتمر صحافي، يقول إنّ خدمات الشركة في ميدان الإنترنيت يمكن أن تُطرح في البورصة. وقال الرجل إن الإدارة «تفكّر» فقط، ولم يقل إنها قرّرت نهائياً؛ ولكنّ مجرّد التفكير هذا كان كافياً كي تشتعل النيران في البورصة. وهكذا، خلال «نهار مجنون» واحد كما قالت الصحافة الفرنسية، ارتفعت أسهم الشركة بنسبة 25٪ دفعة واحدة، وعلى نحو قياسي لم يسبق لبورصة باريس أن شهدته على امتداد تاريخها.

ولعلّ مفتاح السجال، في صدق نوايا الحكومة الفرنسية أو زيفها، كما في الوقائع المالية سالفة الذكر وسواها كثير، هو مفردة واحدة؛ كافية وافية، مع ذلك، هي مقام البورصة في أنظمة رأسمالية تتيح للمليارات أن تربح وتتضاعف، وأن تتهرب وتحتال، في آن معاً. والبورصة، للتذكير المفيد، هي «فاتيكان اقتصاد السوق» حسب تعبير الاقتصادي الأمريكي المعروف كنيث غالبرايث؛ ولهذا فإنها، أيضاً، متحف الذاكرة الرأسمالية، ومستقرّ الأفراح والأتراح، الأرباح والخسائر، والدموع التي تدفق حزناً أو تفيض غبطة. ووقد تكون حكاية ثالثة، يابانية هذه المرّة، دليلاً صارخاً على مقام البورصات في العالم الحديث والمعاصر للمال والأعمال.

غير بعيد، بدوره، ذلك اليوم الذي سجّل مشهداً دراماتيكياً لائقاً بمأساة شكسبيرية، وليس البتة بجولة مجنونة في تقلبات البورصة: ظهر المدير التنفيذي للشركة اليابانية «يامايشي» على شاشات أقنية التلفزة، وانخرط في بكاء متقطع مرير، ثم انحنى على النحو الشعائري الياباني معلناً الإفلاس الوشيك للشركة. وتلك، للإيضاح الضروري، كانت مؤسسة تحتل المرتبة الرابعة في لائحة كبريات بيوتات السندات والأسهم والمضاربات، وعراقتها تعود إلى عام 1897، ولها فروع في 31 عاصمة رأسمالية، بكادر من المستخدمين يتجاوز سبعة آلاف موظف.

أول الدروس قد يتمثل في أنّ عمالقة «الـبزنس» قد ينامون الليل على حال، ويصحون النهار على حال أخرى مختلفة تماماً، خيراً أو شرّاً، ونعمة أو وبالاً. ولكنّ الذين قفزوا عالياً، مثل الذين خُسفوا أرضاً، لن يذوقوا طعم الاستقرار الطويل لأنهم – في الصعود أو في الهبوط، سواء بسواء – لا يغادرون عوالم العراء الموحش الخاضع لقوانين السوق، الذي يركد تارة أو يهتزّ طوراً، ويطالب في الحالتين بأضحيات دسمة لا مناص من تقديمها على قربان رأس المال. وأمّا البيوتات التي تستر عريهم، أو تتستر على عوراتهم بالأحرى، فإنها البورصات الكفيلة بتوفير أنظمة تحايل وتهرّب وتزييف وخداع، بالمليارات غالباً وليس بمئات الملايين وحدها.

ولأنّ الكثير من خطوط الاتفاق الإيديولوجية، الاقتصادية بصفة خاصة، تجمع بين ماكرون وسلفه الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي؛ فلعلّ السجال الراهن، حول محاسبة الأثرياء والشركات العملاقة على عائدات ضريبية تهربوا من سدادها، يتيح التذكير بخطاب يعود إلى خريف 2008، بسط فيه ساركوزي سلسلة آراء دراماتيكية بدورها، حول راهن النظام الرأسمالي الكوني وآفاق مستقبله. يومذاك كانت أجواء التشاؤم الحالكة تخيّم على اقتصاد السوق بسبب مآزق المصارف والبورصات ومؤسسات الإقراض والتوفير والتأمين في أمريكا، فكان لافتاً أن يطلع الرئيس الفرنسي على العالم بهذا الإعلانات الصاعقة: «اقتصاد السوق وهم» و«مبدأ دعه يعمل انتهى» و«السوق كليّة الجبروت، التي كانت دائماً على حقّ، انتهت أيضاً» و«من الضروري إعادة بناء كامل النظام التمويلي والمالي من الأسفل إلى الأعلى، على غرار ما جرى في بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية»….

لم تصدر تلك الخطبة من موقع ساركوزي كرئيس لفرنسا فقط، بل كذلك لأنّ باريس كانت تتولى رئاسة الاتحاد الأوروبي؛ وكان تفصيلاً صاعقاً، وطريفاً أيضاً، أنه أصدر سلسلة أحكام إعدام ضدّ ركائز اقتصادية وفلسفية رأسمالية ظلت عزيزة عليه على الدوام. كأنه، طيلة عمره السياسي ثمّ خلال الـ 20 شهراً ونيف بعد انتخابه رئيساً، لم يكن ملك الجعجعة والضجيج والعجيج حول اقتصاد السوق، وضرورة تحرير السوق من كلّ القيود، وإفساح المدى الأقصى لاشتغال تلك القاعدة الكبرى الأشبه بالعجل الذهبي المقدّس: دعه يمرّ! دعه يعمل!

اليوم يبدو ليبرالي فرنسي آخر، هو خَلَفه الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون، موشكاً على تليين بعض عريكة الشارع الشعبي الساخط عن طريق التدقيق في حسابات أصحاب المليارات وإدارات المصارف العملاقة، وإحكام مبدأ: دعه يعمل، ويكسب، ويحتكر الجموع، ويستغلّ ما وسعته الحيلة لتكديس المزيد من المليارات؛ شريطة أن يردّ بعض نزر يسير، إلى خزائن الدولة الرأسمالية المعاصرة.

وفي الغضون، للرأسمال أن يحتال، وللبورصة أن تتستر، وللمنظومة أن تبقى على حالها، وأن وتترسخ.

القدس العربي
التعليقات (0)