يستيقظ معظم المغاربة وينامون على أحاديث غلاء
المعيشة، والارتفاع غير
المسبوق في
أسعار مواد الاستهلاك، الأساسية منها والثانوية. ولأن موجة الغلاء استفحلت
بالتدريج منذ سنتين، فقد مسّت جيوب جل الشرائح الاجتماعية، فحتى الميسورة منها لا
تتردد في الجهر بالتغيير الحاصل، وإن كان لديها من الإمكانيات ما يجعلها بعيدة عن الإحساس
بضيق اليد وعُسر الإمكان كما هو حال مجمل الناس، بمن فيهم أبناء الطبقة الوسطى.
ولئن سعى المهتمون بظاهرة الغلاء وانعكاساتها السلبية على حياة المواطنين
إلى الاجتهاد في إيجاد تفسيرات مُقنعة لمصادر الغلاء، فقد ظل المجتمع منقسما على
نفسه بين من يرجع الأمر إلى عوامل خارجية، وهم أقلية، بقولهم إن أزمة الطاقة
والحرب الروسية الأوكرانية، وانكماش الاقتصاد العالمي، كلها عوامل كانت في أصل ارتفاع
معدلات الغلاء في
المغرب، وهذا هو تفسير الحكومة ومن ينتصر لمواقفها. وهناك في
الطرف الموازي، وهم الأغلبية، من يُرجعون المصادر الحقيقية لظاهرة الغلاء إلى السياسات
الحكومية المعتمدة منذ سنوات، لا سيما في القطاعات الإنتاجية ذات الصلة، كالفلاحة والزراعة،
وتربية المواشي، وتدبير الثروة السمكية، وآليات استغلال الطاقة، واستيراد
المحروقات وتوزيعها وإعادة الاتجار فيها.
ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتراجع القدرة الشرائية لأوسع الفئات الاجتماعية ليست ظاهرة مغربية، بل هي موجة عالمية، تباينت حدتها وحجم آثارها من بلد إلى آخر، كما اختلفت المعالجات المعتمدة للحدّ من خطورتها، غير أن الحالة المغربية تدعو إلى التفكير في أسباب الارتفاع غير المتوقع للأسعار وكلفة المعيشة بشكل عام
لا شك أن ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتراجع القدرة الشرائية لأوسع
الفئات الاجتماعية ليست ظاهرة مغربية، بل هي موجة عالمية، تباينت حدتها وحجم
آثارها من بلد إلى آخر، كما اختلفت المعالجات المعتمدة للحدّ من خطورتها، غير أن الحالة
المغربية تدعو إلى التفكير في أسباب الارتفاع غير المتوقع للأسعار وكلفة المعيشة
بشكل عام.
ثم من باب المقارنة هناك سعي حثيث للكثير من بلدان العالم لتواصل الحكومات
مع المواطنين من أجل إقناعهم بالحوار بالأسباب الموضوعية لظاهرة الغلاء، والبحث
معهم عن الحلول الواقعية والممكنة للتخفيف منها، بل هناك حكومات دول اتخذت فعلا
إجراءات اقتصادية ومالية بغرض دعم المواطنين والتقليل من الآثار الاجتماعية لكلفة
العيش، وهو ما لا يلمسه المغاربة بشكل واضح ومسؤول من حكومتهم، حيث الحوار محدود
وضعيف، والموجود منه، وهو قليل ومحدود، غير مقنع، وموسوم بتناقض المعطيات وعدم
دقتها، كما أنه شبه منعدم في الكثير من الأحيان، وهو ما ولّد شعورا بوجود فجوة بين
الحكومة ومن صوتوا عليها بالأغلبية في مجلس النواب، خلال الاقتراع التشريعي الأخير
لعام 2021. أما الخطوات الداعمة للقدرة الشرائية والتخفيف من ارتفاع الأسعار
والغلاء، فالحكومة لم تقدم على أي إجراء عملي من شأنه إبراز متابعتها لظاهرة الغلاء،
وتأكيد مساهمتها في التخفيف من وقعها على جيوب المواطنين.
فهل كان بإمكان المغرب تدبير أزمة الغلاء بكفاءة واقتدار؟ وإلى أي حد كان بمستطاع
الحكومة الحالية الاجتهاد في إيجاد معالجات مبتكَرة للتخفيف من ضغط أزمة الغلاء والحدّ
من آثارها على أوضاع المواطنين؟ أم بالعكس لم يكن في الإمكان أكثر مما كان، وأن النتائج
التي راكمها المغرب في مجالات التنمية لم يكن بإمكانها إبعاد المغرب والمغاربة عن الشعور
بالضيق الذي ألمّ بمجمل فئات المجتمع؟ ثم إن الحكومة بطبيعة تركيبتها، ونوعية
توجهاتها، وهوامش المبادرة والفعل والإقدام، لن تقدر على اعتماد معالجات وحلول للتحوّط
من أزمة الغلاء وارتفاع الأسعار، وتجنب أضرارها على مستوى معيشة المواطنين.
يحصد المغرب في الواقع نتائج خياراته التنموية، ويؤدي المغاربة ضريبة هذه الخيارات في معيشتهم، لا سيما الفئات محدودة الدخل، أو التي تعاني من الهشاشة والعَوز وعُسر الإمكان. ولا يختلف اثنان في أن وعي اتجاه المغرب نحو الأزمة وتفاقمها كان واضحا
يحصد المغرب في الواقع نتائج خياراته التنموية، ويؤدي المغاربة ضريبة هذه
الخيارات في معيشتهم، لا سيما الفئات محدودة الدخل، أو التي تعاني من الهشاشة
والعَوز وعُسر الإمكان. ولا يختلف اثنان في أن وعي اتجاه المغرب نحو الأزمة
وتفاقمها كان واضحا، ولافتا للانتباه في مجمل خطب العاهل المغربي خلال السنوات الأخيرة،
فقد تساءل الملك في أكثر من مرة عن الفجوات التي تشق الجسم الاجتماعي المغربي،
ونبّه إلى خطورتها على وحدة المغاربة وتماسكهم، كما تساءل بمرارة عن الثروة
المغربية وأين هي، وكيف يتم توزيعها؟ لذلك، كانت دعوة العاهل المغربي المتكررة إلى
إقامة نموذج تنموي جديد يجبُّ ما سبقه من النماذج، ويرسم رؤية نوعية مغايرة، من شـأنها ردم الاختلالات
والفجوات، وإعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتكريس قيمة الكرامة
والحق في العيش الكريم.
غير أن المغرب، وهذا وجه المفارقة البارز واللافت للانتباه، ما زال يترنح
في مكانه، وظلت أعطاب التنمية وكوابحها تضغط باستمرار على أوضاع معيشة الناس
وأحوالهم العامة.
للتأكيد على أن مصادر أزمة الغلاء وارتفاع كلفة المعيشة لا ترتبط بالنتيجة
بالأوضاع الدولية، وأن لها مسببات داخلية بدرجة أساسية، نُشير إلى أن المغرب فلاحي
بامتياز، وأن ثرواته الزراعية والسمكية، وشساعة أراضيه المنتجة للغذاء لا تجعل منه
بلدا فقيرا أو يعاني من ضعف الأمن الغذائي، بل بالعكس، كل المؤشرات تدل على أن هناك
فجوة في ترتيب الأولويات، واختلالا في تدبير الثروات وسوء توزيعها، وضعفا واضحا في منسوب
العدالة الاجتماعية.
للتأكيد على أن مصادر أزمة الغلاء وارتفاع كلفة المعيشة لا ترتبط بالنتيجة بالأوضاع الدولية، وأن لها مسببات داخلية بدرجة أساسية، نُشير إلى أن المغرب فلاحي بامتياز، وأن ثرواته الزراعية والسمكية، وشساعة أراضيه المنتجة للغذاء لا تجعل منه بلدا فقيرا أو يعاني من ضعف الأمن الغذائي
ثم إن هناك درجات من الفشل في السياسات الحكومية المتعاقبة منذ عقود. فعلى
سبيل المثال لا الحصر اعتمد المغرب منذ العام 2008 ما سمي "مخطط المغرب الأخضر"،
الهادف إلى جعل الزراعة في قلب الاقتصاد الوطني، من خلال دعم المزارع العائلية
الصغيرة والمتوسطة والمزارع الريادية ذات المساحات الكبيرة، كما كان من أهدافه محاربة
الفقر والهشاشة في المناطق الريفية وقد رُصدت له أموال مهمة وضخمة جدا، فكانت
نتائجه مهمة بشكل عام، ليس بالنسبة لكل مكونات المزارعين، ولكن لبعضهم فقط، أي المزارعون
الكبار.
كما أن الإنتاج الزراعي الذي تمت المراهنة عليه لتلبية الحاجيات الداخلية
لعموم المغاربة، تمّ توجيهه بشكل رئيس نحو التصدير للخارج، وهذا ما يفسر ضمن أسباب
أخرى العجز الذي يعاني منه السوق الداخلي في مجال الخضراوات والفواكه واللحوم.