قضايا وآراء

المثقَّف المُنْبَتّ

عبد الرحمن أبو ذكري
CC0
CC0
سبق منَّا القول -في تعريفنا للمثقَّف- ما يجعلنا نستفتح محاولتنا التمييز بين أجناس المثقفين؛ بتقرير واقع جوهري، وهو أن "المثقف الأصيل" لا يمكن أن يوجد بغير مجتمعه، ولا يُمكن أن تتبلور رسالته بغير إدراكه لأزمة هذا المجتمع. وبعبارةٍ أخرى؛ فإن هذا المثقَّف الأصيل هو ذلك الذي غاص في مجتمعه، وسبر غوره وأدرك احتياجاته؛ فتبيَّنت له مسؤوليته. أما المثقَّف المُنْبَتّ؛ فهو المنفصل عن مجتمعه الجاهل باحتياجاته الحقيقية، ومن ثم؛ الغافل عن مسؤوليته.

فإن المثقَّف الأصيل إنسانٌ يُدرِكُ التناقُضات الاجتماعية، ويُدرِك العوامل المسببة لهذا التناقُض، کما يعي احتياجات الجيل والعصر؛ فهو المسؤول عن كشف طريق الخلاص للمجتمع، ليُخرِجهُ من وضع الشرك المتناقض، ويُعين له الحلول والقيم. وهو الذي ينفث في أفراد المجتمع -إذ يَحيَون في الخضم البارد الراكد لمجتمعهم المنحرف- نفحة العشق والإيمان الموَّار، ويَبُثُّ فيهم روح الحركة، وينقل إليهم معرفته ووعيه. وفي عبارة واحدة: يضطلع بدور النبوة في مجتمعه، ويواصل طريق الأنبياء في التاريخ؛ أي إضرام نيران العشق والإيمان والحركة -مُتوشحاً الهدى والتُقى والإنصاف- بلُغة ملائمة للعصر، وحلول مُناسبة لهذه التناقضات، وأسسٍ مُنسجمة مع طبيعة الثقافة التي يحيا في سياقها.
المثقَّف الأصيل إنسانٌ يُدرِكُ التناقُضات الاجتماعية، ويُدرِك العوامل المسببة لهذا التناقُض، کما يعي احتياجات الجيل والعصر؛ فهو المسؤول عن كشف طريق الخلاص للمجتمع، ليُخرِجهُ من وضع الشرك المتناقض، ويُعين له الحلول والقيم

لكن لما كان المثقف المنبَتّ هو النموذج الأعظم شيوعاً في مجتمعاتنا المقلِّدة المهزومة، فقد توجَّب علينا إلقاء الضوء عليه أولاً، لا لكشف عواره فحسب، وإنما استرسالاً مع تعريفنا للمثقَّف بالنفي؛ أي نفي الخبث عن كينونة "المثقف الأصيل"، الذي جعلنا تفصيل نموذجه موضوعاً لمقالنا التالي، وجعلنا -من ثم- تشريحنا "المثقف المنبَتّ" في هذا المقال تمهيداً له، وبياناً لنقيضه.

ويمكن لنا تجريد ثلاثة ملامح للمثقف المنبَتّ -في العصر الحديث- تُرسخ زيفه، وتجعل منه مجرَّد بوق تافه لمن يستعمله؛ بوق لا قيمة له ولا أهمية، أي محض زَبَد سيذهب جفاء.

والملمح الأول هو تمام الجهل بمجتمعه، ما يجعله غريباً عنه غُربة حقيقية، وإن ولد وقضى أكثر عمره فيه؛ لكنه لم يتشرَّب روحه، ولا أدرك نمطه. يُعرّف علي شريعتي "النمط الثقافي" لمجتمع ما بأنه: الروح الغالبة على مجموع معارف هذا المجتمع، وخصائصه وشعوره وتقاليده، ومنظوره ومُثُله، لأنها كلها لا بد تطوي روحاً مُشتركة؛ يؤلِّف بينها جميعاً نمطٌ يُسمَّى: الثقافة. وكل إنسان يتنفَّس ويتغذَّى وينمو داخل النمط الثقافي لمجتمعه، ولهذا؛ فإن معرفة ثقافة مجتمعٍ ما هي بمثابة المعرفة الحقيقية لباطن ذلك المجتمع، ونقاط حساسيته وخارطة عاطفته.

وعليه -يواصل شريعتي- فينبغي للمثقَّف المسلم أن يُدرِك أن الروح الغالبة على ثقافته هي الروح الإسلامية، وأن الإسلام هو الذي صنع تاریخ مُجتمعه وأحداثه وقاعدته الأخلاقية، ونقاط ضعفه وقوته، مهما كانت المؤثرات الأخرى. وإذا لم يُدرِك هذه الحقيقة الواقعيَّة (كما يفعل أغلب مثقفینا اليوم)؛ فسوف يسقط ضحية لنمطه المتخيَّل الزائف، وفريسة لجهله بالناس، وبالتالي؛ يقصر عن التواصل معهم، ويعجز عن إبلاغهم رسالته.

ينقل شريعتي عن "جان پول سارتر" -من مقدمة كتابه: "المنبوذون في الأرض"- أقدم أساليب صناعة المثقف الشرقي (المنبَتّ) في الغرب، ومجال استخدامه؛ إذ يقول:

"كنا نُحضِر رؤساء القبائل وأبناء الأشراف والأثرياء والسادة، من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في أمستردام ولندن والنرويج وبلجيكا وباريس؛ فتتغير ملابسهم، ويلتقطون أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويرتدون السترات والسراويل، ويتعلَّمون منا طريقة جديدة في الغدو والرواح والاستقبال والاستدبار، ويتعلَّمون لُغاتنا، وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا. وكنا نُدبِّر لبعضهم أحياناً زيجة أوروبية، ثم نُلقِّنهم نمط الحياة بأثاث جديد، وطُرز جديدة من الزينة، واستهلاك سلع أوروبية جديدة، وغذاء أوروبي.

كنا نزرع في أعماق قلوبهم الرغبة في أَوْرَبة بلادهم؛ ثم نُعيدهم إليها، لكن إلى أي بلاد؟! البلاد التي كانت أبوابها مُغلقة في وجوهنا دائماً، ولم نكن نجد منفذاً إليها؛ إذ کُنَّا بالنسبة إليها رجساً ونجساً وجِنّاً. کنا أعداء يخافون منا، وكأنهم همج لم يعرفوا بشراً. لكننا منذ أرسلنا إليهم المثقفين الذين صنعناهم؛ کنا نصيح من أمستردام أو برلين أو باريس: الإخاء البشري؛ فيرتد رَجع أصواتنا من أقاصي أفريقيا، أو الشرق الأوسط أو الأدنى أو الأقصى، أو شمال أفريقيا. کنا نقول: إخاء البشرية؛ فكانت لفظة: البشرية ترتد من الطرف الآخر. کنا نقول: ليحل المذهب الهيوماني -أو دين الإنسانية- محل الأديان المختلفة؛ فكانوا يرددون: المختلفة! تماماً مثل الثقب الذي يتدفَّق منه الماء في الحوض.. هذه أصواتنا من أفواههم. وحينما نصمت؛ كانت ثقوب الأحواض هذه تصمت هي الأخرى. وحينما نتحدَّث؛ کنا نسمع تردیداً صادقاً أميناً -لأصواتنا- من الحلوق التي صنعناها. فقد کنا واثقين من أن هؤلاء المثقفين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها سوى ما وضعناه في أفواههم.

الجهل بالذات ونمطها الثقافي -في قسمه الأكبر- هزيمة نفسيَّة، وضعف عن الأخذ بمقاليد الثقافة المحليَّة، واستسلام للثقافة الغازية تحت وطأة الانبهار؛ حتى صار المثقف المُنْبَتّ -بهذا الجهل الخائن- ألعوبة ومطية في أيدي من يوظفه ويستعمله لهزيمة قومه، والاستيلاء على ما في أيديهم، بل وسلب ذواتهم حتى يذوبوا في المغتَصِب
ليس هذا فحسب، بل إنهم سَلَبوا حق الكلام من مواطنيهم. وهذا هو دور المثقف الشرقي [المنبَتّ]، الذي يتشكَّل على شاكلة الأوروبي، وينوب عنه في الدول الإسلامية؛ ليؤدي دور دليل الطريق للاستعمار في البلاد التي لم يكن المستَعمِر يعرفها، أو يعرف لُغاتها. وهو السوس الذي عَمِلَ في الشرق؛ لتثبيت هذه المادَّة الثقافية والأخلاقية، والفلسفية والفكرية والاقتصاديَّة -للاستعمار الغربي- داخل هذه الأشجار المورِقة الأصيلة. هذا هو السوس الذي صنعناه وأسميناه المثقفين. كانوا عالمين بِلُغاتنا، وقصاری همهم ومنتهى أملهم أن يُصبحوا مثلنا، في حين أنهم أشباهنا وليسوا مثلنا. لقد نَخَروا ثقافة أهلهم وأديانهم القومية -التي تصنع الحضارات- من الداخل، وقوَّضوا مُثُلهم ومشاعرهم وأفكارهم، وأصالتهم الأخلاقية والإنسانية".

وعليه، فإن هذا الجهل بالذات ونمطها الثقافي -في قسمه الأكبر- هزيمة نفسيَّة، وضعف عن الأخذ بمقاليد الثقافة المحليَّة، واستسلام للثقافة الغازية تحت وطأة الانبهار؛ حتى صار المثقف المُنْبَتّ -بهذا الجهل الخائن- ألعوبة ومطية في أيدي من يوظفه ويستعمله لهزيمة قومه، والاستيلاء على ما في أيديهم، بل وسلب ذواتهم حتى يذوبوا في المغتَصِب.

أما الملمح الثاني من ملامح هذا المثقف المنبَتّ، فهو أنه ينتظر صعود الموجة أو التيار الاجتماعي حتى يمتطيه ويتحرك في اتجاهه، سواء فُرضت عليه الموجة من داخل المجتمع أو من خارجه؛ أي أنه مجرَّد متسلق منتفع بحركة هذا المجتمع، لا ريادة له ولا دور ولا أهمية؛ فلا يستطيع -لجهله بمجتمعه- خلق حركة جديدة في هذا المجتمع، ودع عنك بث روح جديدة تكون رافداً لهذه الحركة.

من ملامح هذا المثقف المنبَتّ، فهو أنه ينتظر صعود الموجة أو التيار الاجتماعي حتى يمتطيه ويتحرك في اتجاهه، سواء فُرضت عليه الموجة من داخل المجتمع أو من خارجه؛ أي أنه مجرَّد متسلق منتفع بحركة هذا المجتمع، لا ريادة له ولا دور ولا أهمية
ورغم أن شريعتي -رحمه الله- لا يتناول هذا الملمح ولا يكرس لهذه المتتالية التي جرَّدناها، إلا أنه يضرب مثالاً ممتازاً؛ فكأنه أدرك الملمح ضمناً. وهو مثال كاشف عن الخلل البنيوي في إدراك المثقف المنبَتّ لمجتمعه، وكيف يدفعه جهله وعجزه إلى انتظار الموجات لركوبها، بدلاً من محاولة خلقها.

إذ يهزأ شريعتي بالمثقَّفين المعاصرين، الذين يتوهَّمون أنه حينما يحدث التناقُض الجدلي [الهيغلي] في قلب مجتمعٍ ما؛ فإن هذا الجدل -بين الدعوات ونقائضها- سيُجبِرُ المجتمع على الحركة الذاتية، ويسيرُ به قُدماً إلى الثورة، ويدفعه دفعاً إلى التحرُّر -بمفرده!- فيلج مرحلة جديدة. وبناء على ذلك، فإن الفقر في ذاته -بوصفه تناقضاً اجتماعيّاً- قد يُسبب الصراع الطبقي أو الانتفاض الاجتماعي تلقائياً. وهذا وهم؛ فما من مجتمع يتحرَّك ويتغيَّر، ويصل إلى حريته، لمجرَّد أنه يحوي تناقُضاً جدليّاً في داخله، أو يطوي تفاوتاً طبقيّاً مُفجعاً. إذ يُمكن أن يظلَّ الفقر -أو التناقُض الطبقي- في صُلب مجتمع وأساسه لآلاف السنين، دون أن يُحدث بذاته أدنى تغيير؛ إذ ليس للجدل [الهيغلي] في حد ذاته حركة!

لكنَّ التناقُض المجتمعي قد يدفع إلى الحركة، ويتبدَّل الجدل في المجتمع إلى تصادُم بين الدعوات ونقائضها؛ حين يُنقَل هذا التناقض من صلب المجتمع، ومن نخاع النظام الاجتماعي؛ ليُغرَس في ضمير الناس ووعيهم. وهو جوهر وظيفة المثقف الأصيل، ولب دوره.

تستطيع المجتمعات التعايُش مع ما تنطوي عليه بنيتها -من تناقُض قيمي وتفاوت طبقي- لقرون طويلة. فلا يقع فيها أدني تغيير إلا إذا انتقلَت هذه التناقُضات إلى وعي الناس وشعورهم. فإن وجود الفقر لا يدفع إلى الحركة، لكنَّ الوعي بالفقر واستشعار وطأته هو الذي قد يدفع إليها. ولهذا، كانت وظيفة المثقف هي نقل التناقُضات من نخاع البنية الاجتماعية إلى ضمائر الناس ووعيهم، وتوعيتهم بتناقُضاتهم، حتى يُحدِثَ ذلك الحركة المرجوَّة؛ فيندفع المجتمع إلى الحركة بنفسه
والدليل على ذلك هو استقرار حياة القبائل التي تعيش في أفريقيا وأستراليا -إلى اليوم- بنظام اجتماعي ثابت منذ ثلاثين ألف سنة، رغم رسوخ الفقر والشرك في هذه المجتمعات رسوخاً تامّاً. إذ تستطيع المجتمعات التعايُش مع ما تنطوي عليه بنيتها -من تناقُض قيمي وتفاوت طبقي- لقرون طويلة. فلا يقع فيها أدني تغيير إلا إذا انتقلَت هذه التناقُضات إلى وعي الناس وشعورهم. فإن وجود الفقر لا يدفع إلى الحركة، لكنَّ الوعي بالفقر واستشعار وطأته هو الذي قد يدفع إليها. ولهذا، كانت وظيفة المثقف هي نقل التناقُضات من نخاع البنية الاجتماعية إلى ضمائر الناس ووعيهم، وتوعيتهم بتناقُضاتهم، حتى يُحدِثَ ذلك الحركة المرجوَّة؛ فيندفع المجتمع إلى الحركة بنفسه. ولهذا، كان اضطلاع المثقف بمسؤوليته موجعاً له ولمجتمعه، إذ يُفتق الوعي المؤلم بوضع متدهور.

هذان الملمحان المتراكبان -الجهل بالمجتمع، واستسهال ركوب أمواج اصطنعها الغير بسبب الجهل بحركيات المجتمع ومحفزاته- يُثمران ملمحاً أخيراً شديد الأهمية، يُسهم في تسطيح إضافي لكافَّة محاولات هذا "المثقف" البائس. ويتجسَّد هذا الملمح في التسييس المفرِط لكل فعل وحركة يأتيها هذا المثقف وأشباهه من المرتزقة. هذا التسييس -بالمعنى الحديث- ليس انشغالاً صحيّاً حقيقيّاً بالسياسة وتدبير شؤون الحكم، وإنما هو محاولة لتجذير وتأصيل كافَّة الأفعال الانتهازية السطحية التي يأتيها هذا المثقف المنبَتّ، وإضفاء معان بطوليَّة كاذبة عليها؛ حتى تبدو للمراقب الجاهل بوصفها نضالاً ضد الجور، وهي في حقيقتها جعجعة فارغة لا طحن فيها؛ إذ لا ينبني عليها عمل من أي نوع، ولا تُثمر شيئاً، وإنما تُسهم فحسب في توسعة شبكة مصالحه، ودفعه إلى الصدارة. وقد كان هذا التسييس الحداثي الغبي عينه هو أعظم بلايا النصف الأخير من القرن العشرين، إذ ولَّد ما سُمي بـ"الإسلام السياسي"، وهذا حديث يطول(1).

__________
(1)- يمكن لمن شاء الاستفاضة، الرجوع إلى مقدمتنا على: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث (تنوير للنشر والإعلام، 2021م).

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry

التعليقات (0)