قضايا وآراء

مُذكّرات عائلة بنسختها البريطانيّة

عبد السلام فايز
تشكل هذه المذكّرات نقطة حاسمة في تاريخ العائلة المالكة في بريطانيا- تويتر
تشكل هذه المذكّرات نقطة حاسمة في تاريخ العائلة المالكة في بريطانيا- تويتر
مدينةُ الضباب، اسمٌ على مُسمّى، وذلك حين يُعِيقُ الضبابُ رؤيةَ السائقين والمارّة على حدٍّ سواء، فمن يتجول اليوم في شوارعِ لندن البريطانية، سوف يُطالعُه ضبابٌ كثيف، يلفّ سمعة العائلة المالكة، تلك السمعة التي لا بد وأن تبدأ بالتآكلِ رويدا رويدا، إثرَ ما كتبه نجل ملك بريطانيا، الأمير هاري، في مذكراته التي بلغت ما يقارب 500 صفحة مُدوّنة بلغات متعددة قد تصل إلى 16 لغة، والتي فجّر من خلالها الكثير من المفاجآت، لا سيما أنها تمسّ الخط الأول في عائلته، كما أنها تمسّه بشكل مباشر على الصعيد الشخصي.

فالفضائح المتتالية التي كشفَ عنها الأمير الشاب تستوجب الوقوف والتدبّر طويلا، وألّا يمرّ القوم عليها مرور الكرم؛ لأنها تعود إلى ماض عريق وحاضر محفوف بالأخلاق، الأخلاق التي خلعها الأمير عند أول سطر في مذكراته.

ولم تقف هذه الفضائح عند حدود العائلة المالكة من الناحية الجغرافية، بل توسّعت إلى أبعد من ذلك من ناحية الزمان والمكان معا، فنجد أنّ الأمير الشاب يُثْرِي مذكراته بماضيه في أفغانستان أيضا، ولهذا أراني مُضطرّا إلى التعرّج على النقاط التالية:


لم تقف هذه الفضائح عند حدود العائلة المالكة من الناحية الجغرافية، بل توسّعت إلى أبعد من ذلك من ناحية الزمان والمكان معا، فنجد أنّ الأمير الشاب يُثْرِي مذكراته بماضيه في أفغانستان أيضا.

الأولى منها، هو ما كتبه الأمير هاري حول تفاخره بقتل 25 شخصا، زعمَ أنهم من مقاتلي حركة طالبان في أفغانستان، تحت تأثير المخدرات، ليس هذا فحسب، بل تمادى أيضا في وصفهم على أنهم مجرد حجارة شطرنج، ولم يشعر بالندم على فعلته هذه، وهو ما دفعني إلى البحث عن ردود الفعل في أروقة السياسة تجاه هذا الفعل، فعثرتُ على ردّ ناريّ من رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب، الذي شنّ هجوما لاذعا على تصريحات الأمير هاري، وخاطبه بشكل مباشر في محاولة منه لإيصال ردة الفعل التركية، وذلك حين قال له: الصبيّ الأبيض الأوروبي مَن أنت؟ عليكَ أن تقرّر ما إذا كنتَ إنسانا أم لا، ما الذي كنتَ تبحث عنه في أفغانستان؟ ماذا تفعل هناك لقتل الناس؟

ولم يكتفِ البرلماني التركي بالهجوم على الأمير فحسب، بل تخطّاه أيضا ليشملَ تاريخ أوروبا بشكل عام، فوصف الأوروبيين بأنهم يقتلون أكبر عدد من الناس في العالم، حيث قتلوا حسب قوله أكثر من عشرين مليون شخص خلال الحرب العالمية الأولى، و75 مليون شخص في الحرب العالمية الثانية، وهناك من أرّخَ المزيد أيضا.

تساءلتُ بعد أن قرأت هذا الرد: تُرى لماذا استخدم رئيس البرلمان التركي مصطلح الصبي الأبيض؟! هل يريد أن يذكّر الأميرَ بعنصرية العِرق التي سادت في الغرب ولم تزل أحيانا، أمْ إنه يريد أن يضع خطا تحت الصور العارية التي نُشِرت عن الأمير هاري بعد المنافسات الغريبة التي كانت تحدث داخل قصور العائلة المالكة؟ لا ضيرَ في ذلك، فالمذكّرات تحتوي على كَمّ هائل من هذا القبيل، لكنّ اللافت للانتباه هو طريقة التباهي التي اعتمد عليها هاري في هذه النقطة تحديدا، وكأنّ المزاعم الأوروبية المغلّفة بحقوق الإنسان أصبحت مجرّد حبر على ورق، وأنّ الكوكائين حلال على الأمراء والملوك، وحرام على النادلِ وبقيةِ أعضاء الحاشية.


كتاب المذكّرات هذه، ربّما يصبح الأكثر مبيعا في العالم، وهذه بشرى خير باعتقادي وليس العكس، لعلّ العالم يطّلع إلى كواليس العائلة التي شهدت ربما أكبر زخم بشريّ في أثناء تشييع الملكة الراحلة، لدرجة أنّ غالبية الزعماء الذين شاركوا في جنازتها لم يجدوا وسيلة نقل رسمية تُقلّهم إلى النعش بسبب الضغط الحاصل آنذاك، فجاءتهم التعليمات بضرورة اعتماد وسائل النقل العامة للوصول إلى هناك.
النقطة الثانية هي أنّ صاحب هذه المذكرات، تعهّد بأن يخصص ريع الكتاب لصالح الجمعيات الخيرية، وقد احترتُ في استخدام الإيموجي المناسب لمثل هذا الخبر، هل يكون هذا 🫢، أم هذا 😳، أم هذا 🙃؟ ولم أعثر حقيقة على ما يمكن أن يعبّر عن غرابة الموقف، فكيف يمكن لأمير أن يراهن مع مُنافسيه كما يقول في مذكّراته، على لُعبةِ بلياردو، وأنّ الخاسر في هذا السباق سوف يقوم بخلع ملابسه، ولا بأسَ أيضا من التصوير بالنسبة له، بل إنه لم يعد لديه ملابس يرتديها لكثرة الخسارات التي مُنِيَ بها؟

وقد أشار الأمير إلى الحالة التي فقد فيها عذريّته -على حد تعبيره- تحت تأثير الكحول والمخدرات، وعرّج أيضا إلى الكثير الكثير من مغامراته الجنسية التي لا تليق بهذا المقال، وبإمكان السادة القارئين أن يُعاينوها من المصدر ذاته؛ لأنّ مصادر إسبانية قالت إنّ كتاب المذكّرات هذه، ربّما يصبح الأكثر مبيعا في العالم، وهذه بشرى خير باعتقادي وليس العكس، لعلّ العالم يطّلع إلى كواليس العائلة التي شهدت ربما أكبر زخم بشريّ في أثناء تشييع الملكة الراحلة، لدرجةِ أنّ غالبية الزعماء الذين شاركوا في جنازتها لم يجدوا وسيلة نقل رسمية تُقلّهم إلى النعش بسبب الضغط الحاصل آنذاك، فجاءتهم التعليمات بضرورة اعتماد وسائل النقل العامة للوصول إلى هناك.

النقطة الثالثة، هي حديث الأمير عن الصراع الذي دار بين ورثة العرش البريطاني، وكأنّ هذه النقطة تحديدا هي الرابط الوحيد بين صراعات العائلات المالكة في الشرق الأوسط وفي الغرب، فلا أحد فوق حب السلطة، ولا أحد فوق حب التملّك والنفوذ أيا كان عِرقه وجغرافيته وقوميّته. فالأمير هاري يكشف عن الملاسنة الحادة التي دارت بينه وبين شقيقه وليام عام 2019، والتي تطورت إلى عنف جسديّ دون أن يمتنع عن التفاصيل المثيرة، التي يمكن أن تحدث في أي عائلة بعيدة كل البعد عن واقع السياسة.


هذه المذكّرات سوف تشكل نقطة حاسمة في تاريخ العائلة المالكة، ومن ثم سوف تجد نفسها أمام خيارين: إمّا التعايش مع هذه الفضائح والتعامل معها كحادث عرضي مؤقت يزول مع مرور الوقت وغفلة الإعلام المعتادة، أو الكفّ عن التنظير والمزاودة في مسألة الأخلاقيّات وحقوق الإنسان وحبّ السلطة.

ولا بأسَ أن ننتظر ردود الفعل عن القصر الملكيّ في بريطانيا؛ لأن المقرّبين منه قالوا إنّ إعلام القصر سوف يلتزم الصمت لحين نشر المذكرات بشكل علنيّ، وها هي قد نُشِرت، لتحوّل مخاوف زوجة الأمير إلى حقيقة دامية لا بد من التعايش معها؛ لأنها كانت قد صرّحت بأنها بدأت تفكّر بالانتحار بعد الإجهاض الذي تعرّضت له بسبب تَبِعات هذه الفضائح.

ومن ثم، يمكن أن أختم المقال بالقول؛ إنّ هذه المذكّرات سوف تشكل نقطة حاسمة في تاريخ العائلة المالكة، ومن ثم سوف تجد نفسها أمام خيارين: إمّا التعايش مع هذه الفضائح والتعامل معها كحادث عرضي مؤقت يزول مع مرور الوقت وغفلة الإعلام المعتادة، أو الكفّ عن التنظير والمزاودة في مسألةِ الأخلاقيّات وحقوق الإنسان وحبّ السلطة، فكلّنا دُبّ به على هذه البسيطة، وكُرّمنا بأعظم صفة مُنِحت لنا، ألَا وهي صفة الإنسانية بخيرها وشرّها.
التعليقات (0)