كتاب عربي 21

"الأفاتار" البحريّة: إرهاصات النظام العالمي الجديد

أحمد عمر
تكريم الحيوان والمسوخ وإعلاء شأنه ومنزلته على البشر في السينما- CC
تكريم الحيوان والمسوخ وإعلاء شأنه ومنزلته على البشر في السينما- CC
الذين قالوا: إنَّ الرياضة رياضة وحسب، إنْ يقولون إلا كذبا، كرة القدم أكثر الألعاب شيوعاً وشعبية وإيلافاً، وأشدها تأثيراً وتحويرا، وزعموا أن خمسة مليارات من البشر شاهدوا مباريات المونديال، وهو رقم مبالغ به. الرياضة اقتصاد وتجارة وأيديولوجيا وعصبية وطنية ودين أو أفيون.

وقد رأينا الصراع السياسي والعقائدي حول قوس قزح الألوان في مونديال قطر، صراع لا يغيب إلا عمن في عينه قذى أو بالعين عوار، وسعدت أقوام بتخفيف قطر الجرعة العالمية من أيديولوجيا قوس قزح بجرعة مضادة من الفضائل. لا تزال كرة القدم لعبة في ريعان شبابها، أما السينما فقد شاخت بجنون الأفكار في وسائل التواصل وإقبال الناس على تصوير التمثيليات القصيرة والفيديوهات الحيّة واليومية، وهي تثير البهجة والطرفة والدهشة، وإن بأدوات أولية، فالواقع أشدُّ غرابة من الخيال.
لا تزال كرة القدم لعبة في ريعان شبابها، أما السينما فقد شاخت بجنون الأفكار في وسائل التواصل وإقبال الناس على تصوير التمثيليات القصيرة والفيديوهات الحيّة واليومية، وهي تثير البهجة والطرفة والدهشة، وإن بأدوات أولية، فالواقع أشدُّ غرابة من الخيال

تذكر الإحصاءات أنَّ فيلم الأفاتار هو أعلى الأفلام إيراداً وربحاً في شباك التذاكر، حتى أنه بذَّ فيلم آلام المسيح الذي أخرجه ميل جيبسون ربحا وكسباً. والأفاتار فيلم من إخراج جيمس كاميرون وتأليفه، وهي قصة فيلم ويسترن، الخيول فيها بستة أطراف، يغزو فيها الأمريكيون كوكباً اسمه باندورا، وهو اسم صندوق إغريقي خرجت منه أنواء الشرّ. وسنرى العقيدة الإغريقية ذائبة في قصة الفيلم، فالغرب يعود إلى أصوله العقائدية الرومانية والإغريقية.

الغزو سببه البحث عن معدن الكتروني ثمين، وكان الإنجليز قد غزوا قارة أمريكا بحثاً عن الذهب، وأبادوا أهلها، واحتلوا أرضها، ووصفوا أقوامها بالمتوحشين، كما يفعلون في هذا الفيلم، لكنهم في هذه المرة يتسللون إلى الكوكب بعقيدة نسخ الأرواح، وهي عقيدة حلولية يعتقدها الهندوس والصينيون وغيرهم كثير من ملل العالم ونِحله، وكانوا يغزون بهذه العقيدة أو ما يماثلها، على سبيل المثال، لورانس العرب الذي تسلل إلى الجزيرة العربية، ونابليون الذي ادّعى الإسلام كذباً في مصر، ورائدهم الأول وسلفهم هو عبد الله بن سبأ.

يدسّ الغزاة جندياً مقعداً بين أهل الكوكب، وهم قوم طوال يسمّون بالنافي، هم أنصاف بشر أنصاف حيوان، لهم ذيول، يذكّرون بكائنات القنطور الإغريقية، لكن أمراً يعطل خطة الغزو، وهو أن الجندي المدسوس والعالمة المشرفة على النسخ والتلبيس، يقعان في حبِّ الكوكب وأهله. الأمر يشبه ما وقع لسارق تسلل إلى بيت مالك بن دينار فلم يجد ما يسرقه، فدعاه للصلاة معه، ففعل، ورآه الناس يصلي مع السارق فتعجبوا فقال الإمام: جاء ليسرقنا فسرقناه.

يدين الاثنان بدين شعب الكوكب، وينسلخان عن قومهم. والنافي قوم يعبدون شجرة تسمى ايوا، ويقدسون الطبيعة من حيوان ونبات، ويفضلونها على المعدن الثمين المكنوز تحت الشجرة المقدسة. ينحاز الاثنان (الجندي والعالمة) إلى الشعب المغزو، ويقودانه إلى النصر. تقضي العالمة شهيدة، ويتحول الجندي المقعد إلى كائن قنطوري من كائنات شعب النافي، ويتزوج ابنة رئيس القبيلة، ويعيشان كما في حكايات ما قبل النوم حياة سعيدة.
القادة والهداة في الأفلام الغربية من العرق الأشقر دائما، يقودون الشعوب المنهوبة إلى أديانهم، لكن هذه المرة، حصل العكس، بعد أن ارتدّوا نسخة حيوانية!

القادة والهداة في الأفلام الغربية من العرق الأشقر دائما، يقودون الشعوب المنهوبة إلى أديانهم، لكن هذه المرة، حصل العكس، بعد أن ارتدّوا نسخة حيوانية! وهو امتساخ محمود لدن صناع الفيلم.

عندما تشيع بضاعة وتكسب في السوق، على معهود التجارة والأعمال، تجري صناعة بضاعة مشابهة، من ذلك أنهم أمسوا يصنعون من قشور الثمار أطباقاً فاخرة، وموائد زاخرة. وقد صنع صنّاع الفيلم جزءاً ثانياً للفيلم بعد نجاحه الكبير، فأحيوا الموتى وبعثوا من في القبور، فأبطال السينما لا يموتون.

وجعلوا في قصة "الأفاتار البحرية"- الجزء الثاني، والذي عُرض منذ يومين في دور العرض، للجندي جيك سولي زوجة وأبناء، وأرسل الغزاة في إثرهم كتيبة سعياً للانتقام والثأر من الهزيمة في الموقعة السابقة. تهرب العائلة الهجينة، المكونة من الوافد جيك سولي، ونيتيري ابنة زعيم النافي، وأبنائهم الأربعة، من الغزاة المؤللين بالعدّة والعتاد والأسلحة الحديثة إلى قبيلة من قبائل الكوكب، بحرية ترتزق من الماء وصيده، وتدور حروب بين الفريقين، فينتصرون. أما أكثر مشاهد الفيلم الطويل، والذي بلغ ثلاث ساعات ثقيلة، فهي مشاهد فيلم كاوبوي أمريكي تقليدي، سادت فيه مشاهد الحرب، سوى أن صنّاعه استبدلوا الديناصورات الطائرة بكائنات البحر.

يمكن تلخيص الفوائد واللطائف والنكت من الفيلم الذي صُنع في مصنع الكهانة العالمية، هوليود، وسيغدو مسلسلاً بأجزاء خمسة كما يعِد صنّاعه. أول الفوائد أنَّ المسلسلات عادت ونافست الأفلام، مع أن الوقت يضيق. والقصد من صناعة المسلسلات هو سرقة أعمار الناس في الفرجة وإشغالهم عن شؤونهم، والوقت فرع من المال، والفرجة محمولة بالأفكار والعظات والعقائد.
تكريم الحيوان والمسوخ وإعلاء شأنه ومنزلته على البشر، وقد ظهر هذا في كثير من أفلام هوليود، مثل كوكب القرود، والكائنات المتحولة مثل سبايدرمان والرجل الذئب، والمرأة الهرة، وجمعيات الرفق بالحيوان. والتبشير بالطعام النباتي إضعافا للبشر للتحكم بهم واستضعافهم

الأثر الثاني؛ هو تكريم الحيوان والمسوخ وإعلاء شأنه ومنزلته على البشر، وقد ظهر هذا في كثير من أفلام هوليود، مثل كوكب القرود، والكائنات المتحولة مثل سبايدرمان والرجل الذئب، والمرأة الهرة، وجمعيات الرفق بالحيوان. والتبشير بالطعام النباتي إضعافا للبشر للتحكم بهم واستضعافهم، ويمكن الاستشهاد بقرار هولندا الأخير بمصادرة ثلاثة آلاف مزرعة تمهيداً لتحريم شرب الألبان وتقديس البقر حفاظا على البيئة كما يزعمون، وتعميم عقيدة الحلولية في العالم، وتحويل البشر إلى كائنات نباتية مجتّرة مثل الأنعام.

الأثر الثالث؛ هو جرّ الناس إلى الاعتقاد بعقيدة التناسخ، وهي عقيدة صينية هندوسية وثنية، تحول إليها الغرب المسيحي، تقول بخلود الإنسان ودورانه في حيوات الكائنات من حوله.

الرابع؛ الإعلاء من شأن الحيوان على الإنسان، أما الخامس فهو: القول باستحضار الأرواح..
كان الجاهلي العربي يصنع إلهه من التمر، وعندما يجوع يأكله، وكذلك كان سكان القارة الأمريكية يفعلون، يصيدون البوفالو ويبكونه ثم يأكلونه. والأمريكي الصانع الغازي يوهمنا أنه يعتذر عن جرائمه، بالاحتفال بعقائده الأولى

إن كان من فضيلة محمودة ومأثورة في بضاعة الفيلم المزجاة، فهي العائلة وأواصرها، لكنها عائلة نصف حيوانية، بل إن الشرير في الفيلم يعطف على ابنه، وهذا أيضاً حَسن ومحمود، وأنّ الولد الأشقر (ذا القناع) الذي ربّي في الكوكب ينقذ والده الغازي وهو يشتمه، فشتم الوالد وسبّه شائع في الأفلام الأمريكية. عقيدة قتل الأب عقيدة غربية راسخة، قال بها فرويد، وردّها إلى النفس والصراع حول الأنثى، وأصّلها علماء النفس اللاحقون، الذين يُرفعون إلى منازل الأئمة والأنبياء في أدبيات الغرب وإعلامه.

المشهد الحربي الأخير على حاملة السفن الغازية وغرقها مأخوذ من فيلم التيتانك الغارقة الذي أخرجه كاميرون، والفيلم يخلط بين الإشادة بالغرائز الحيوانية البهيمية القوية وبين الذكاء الصناعي، فيجعل سكان الكوكب يستعملون أسلحة الغزاة، ويتواصلون بطريقتهم الالكترونية، وطريقة التخاطر أجلّ وأعظم وأكرم. كان الجاهلي العربي يصنع إلهه من التمر، وعندما يجوع يأكله، وكذلك كان سكان القارة الأمريكية يفعلون، يصيدون البوفالو ويبكونه ثم يأكلونه. والأمريكي الصانع الغازي يوهمنا أنه يعتذر عن جرائمه، بالاحتفال بعقائده الأولى، إن يقولون إلا كذبا.

أغلب الظن أنَّ الأجزاء التالية ستكون أضعف وأوهن وأضجر، فقد شاخت السينما الأمريكية، وصدق القائل: إن الله ما رفع شيئا إلا وضعه.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (0)