تمر
المنطقة العربية بتحولات جوهرية نابعة من تحديات اقتصادية وسياسية ربما هي الأصعب في تاريخها الحديث. تشكل هذه التحديات المصحوبة بانحسار الاهتمام العالمي بالمنطقة حالة جديدة لم تعتد عليها دول المنطقة.
وفي حين تتفاوت اليوم درجة وطريقة التعامل مع هذه التحديات بين دول المنطقة المختلفة، فإن القاسم المشترك الوحيد اليوم هو استحالة استدامة الوضع القائم، وتقلص الاهتمام العالمي بمحاولة حل هذه التحديات بشكل أو بآخر كما كان عليه الحال في السابق.
مرت على المنطقة أربع أزمات رئيسية في العقد الماضي بسبب ضعف نظم
الحوكمة السياسية والاقتصادية، فكانت الثورات العربية عام 2011، ثم موجة ثانية في عام 2019، أولى هذه الأزمات التي أدت لتحولات سياسية واقتصادية في عدد كبير من الدول العربية ما زلنا نشهد آثارها حتى اليوم.
وحين استخدمت الكثير من الدول عامل المال لمحاولة استمرار النظام العربي القديم، جاءت الأزمة الثانية عام 2014 والمتمثلة في الانخفاض الحاد في أسعار النفط، فأدت هاتان الأزمتان لزعزعة الأداتين الرئيستين اللتين استخدمتهما معظم الدول العربية لاستدامة السلم الأهلي، وهما القبضة الأمنية (العصا) والموارد المالية (الجزرة).
بالرغم من ذلك، لم ترغب معظم الدول العربية باستخدام أدوات جديدة لاستدامة السلم الأهلي، والمتمثلة بمزيد من التشاركية السياسية، وتنويع مصادر الدخل واعتماد الكفاءة بدلا من المحسوبية، والمواطنة المتساوية للجميع، وذلك لأن هذه الأدوات الجديدة ستدخل تغييرات على الطبقات المجتمعية التي تعتمد عليها هذه الأنظمة.
وبقيت الحكمة التقليدية التي تفضل الوضع الحالي على علاته عن الدخول في عملية إصلاحية سياسية واقتصادية ومجتمعية ترى الأنظمة أن نتائجها غير مضمونة، بل يمكن أن تكون كارثية عليها.
لم تتعظ أغلب دول المنطقة من الأزمتين المذكورتين أعلاه، أي ضعف الحوكمة وضعف الموارد المالية، لتغيير نهجها السياسي والاقتصادي، بل واصلت سياساتها القديمة في ظل انحسار الضغط الشعبي وعودة الناس لبيوتها، فبقي النهج القديم وبقيت معه الصعوبات الاقتصادية والسياسية.
لكن من الواضح أن الأزمات العالمية في تسارع كبير، فجاءت الأزمة الثالثة المتمثلة بوباء كورونا، والأزمة الرابعة، المتمثلة بالحرب الروسية الأوكرانية، لتعمق التحديات السياسية لدول المنطقة، وبخاصة للدول المستوردة للنفط، فكانت النتيجة المباشرة لغياب الإعداد لأدوات جديدة ونهج مختلف، هي ما نشهده اليوم من ارتفاع غير مسبوق في أسعار للمواد الغذائية وأسعار النفط، وارتفاع كارثي لمعدلات البطالة التي وصلت في دولة كالأردن الى خمسين في المئة بين الشباب، وارتفاعات موازية مقلقة للتضخم والدين العام.
كانت العديد من دول المنطقة تعتمد في الماضي على المساعدات الخارجية للمعالجة الآنية لهذه التحديات، لكن العالم الخارجي تغير اليوم، فأزمة كورونا جعلت المنافسة على الحصول على القروض الخارجية محتدة بين كافة دول العالم، وبالتالي فاقمت من صعوبة الحصول على القروض من الأسواق العالمية.
رافقت ذلك مقاربة خليجية أكثر انتقائية في مجال دعمها للدول العربية المستوردة للنفط، بعد أن بدأت تواجه تحديات اقتصادية داخلية غير مسبوقة، وبعد أن أصبح دعمها للمنطقة أكثر اشتراطية ومبتعدا عن دعمها التقليدي لدعم موازنات تلك الدول.
هناك عامل خارجي جديد أيضا. إن اهتمام العالم الخارجي، وبالأخص الولايات المتحدة، بالمنطقة في انحسار واضح. فبعد فشل الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها المعلنة من خلال غزوها العراق عام 2003، تشكل رأي عام أمريكي واسع ضد التدخلات العسكرية الأمريكية الخارجية، وهو شعور شعبي ما زال موجودا حتى اليوم.
فإذا ما أضفنا الى ذلك انحسار أهمية سلعة النفط للولايات المتحدة بعد أن أصبحت مصدرا خالصا للطاقة ابتداء من العام 2019 وانشغالها في مواجهة التحديات التي تمثلها الصين وروسيا لها، لعلنا ندرك أن أحدا لم يعد يعير اهتماما لنا كما في السابق.
وفي حين أن الحكمة التقليدية القائلة إن مشاكل المنطقة تجبر الولايات المتحدة دائما عل العودة لها، فإن التطورات عبر السنين الماضية لا تثبت ذلك. فلا الحرب الإسرائيلية على غزة، ولا الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة في القدس، ولا التحديات الأمنية المتكررة، ولا ملء الفراغ من قبل دول كروسيا والصين وإيران وتركيا، أدت الى ازدياد التدخل الأمريكي، بل إن لسان حال أمريكا اليوم يقول إن المنطقة لم تعد ذات أهمية استراتيجية، واهتمامها قد انحسر لمحاولة الوصول الى اتفاق نووي مع إيران، ودعم للاتفاقات الإبراهيمية.
بل إن الإصلاح السياسي، التي دعمته الولايات المتحدة لفظيا في السابق، لم يعد ذو أهمية حتى لفظية لديها، بعد أن حاولت بعض الدول العربية القيام بإصلاحات تجميلية الهدف منها إرضاء الولايات المتحدة عوضا عن الإدراك بوجوب كونها ضرورة داخلية لاستدامة السلم الأهلي والوصول الى حالة مستدامة من الاستقرار والازدهار.
ما هو الاستنتاج الرئيسي لكل ما سبق، باعتبار أن في إدراك المشكلة نصف الحل؟ إن الوضع القائم غير قابل للاستمرار، وإن الصعوبات الاقتصادية تنذر بما لا يحمد عقباه إنْ تركت الأمور على حالها كما في السابق، وإن الإصلاحات السياسية والاقتصادية المجتمعية – الحقيقية والمستدامة – ضرورة لمستقبل مستقر ومزدهر. فهل أدركت دول المنطقة ذلك بعد؟ وهل نشهد بدايات جديدة تعتمد نهجا أكثر تشاركية وأعظم إنتاجية؟
ليس هناك من جواب واحد يعم دول المنطقة كافة. نشهد اليوم بالأخص محاولات جادة من بعض الدول المصدرة للنفط، للاستفادة من الارتفاع الأخير في أسعار النفط بسبب الأزمة الأوكرانية، على الأقل لتغيير نهجها الاقتصادي. هناك جهود لا نستطيع إنكارها من دول كالسعودية وقطر والإمارات لتطوير بنيتها التحتية وأنظمتها المالية والاقتصادية ونوعية الخدمات المقدمة لمواطنيها، ما بدأ يحدث طفرة نوعية في اقتصادها ونوعية الحياة فيها، وينبئ بجذب الاستثمارات الخارجية لها والبدء بالمعالجة الجدية للبطالة ورفع مستوى الإنتاجية.
لكن الوضع لا يزال مختلفا في أغلب الدول المستوردة للنفط كالأردن ومصر وتونس وغيرها. فبالرغم من انحسار المساعدات الخارجية والارتفاعات الهائلة لمعدلات البطالة والدين والتضخم وأسعار المواد الغذائية والوقود، ما نشهده اليوم لا يرقى في أحسن الأحوال إلا لخطوات متباطئة إن لم أقل تجميلية، لا ترقى لمستوى التحديات التي تواجه هذه البلدان، فترف الوقت ليس متاحا، والتردد أو الخوف من الولوج بعملية إصلاح جادة ومستدامة لن يؤدي إلا الى تفاقم التحديات والتقليل من فرص حلها، عوضا عن زيادة فرص الإخلال بالسلم الأهلي لا سمح الله.
لقد فات وقت قرع أجراس الإنذار المبكرة والمحذرة من الأزمات الاقتصادية والسياسية. نحن اليوم في خضم هذه الأزمات، ولم يعد إنكارها ممكنا إلا من المتعامين، كما لم يعد إصلاحها متاحا بترديد الشعارات أو التملق لأصحاب القرار. لن يحك جلدنا إلا ظفرنا بعد اليوم. المهم أن نبدأ.
(القدس العربي اللندنية)