هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قال فولتير: يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت وبعض الناس كل الوقت، لكن أن تخدع كل الناس كل الوقت فهذا مستحيل. كان نتنياهو متكدرَ الوجه يتصبب عرقا في افتتاح الكنيست الجديد، إذ كان يحلم بأن يعلن عن حكومته يوم الافتتاح بعد أسبوعين من الانتخابات، مقتنعا بأنه يملك كتلة طيّعة تأتمر بأمره! لكنه اكتشف أن المتمردين على كل شيء (سموتريتش وبن غفير) يعدّانه الحلقة الأضعف، وهما يمتلكان قوة وغرورا يفوق بنيامين نتنياهو بمرات.
السياسة أصعب من ذلك بكثير في دولة متحركة وينكشف فيها الخصوم والحلفاء حد التعرية واللعب بين نتنياهو والآخرين على المكشوف، وشركاؤه أكثر إدراكا لنقاط ضعفه من خصومه، إذ يقف بن غفير ملوحا له بأصفاد السجن إذا لم يحظ بوزارة الأمن الداخلي، وسموتريتريتش يضع ظهر نتنياهو للحائط ويمسكه من رقبته إذا لم يسلمه وزارة الدفاع، ولا يتأثر بمناورات نتنياهو وجاهزية يوآف غالنت لا تعني له أكثر من سخرية أمام رجل بهذا الضعف، مهدد بالسجن أو انتخابات سادسة تجعل ثنائي الفاشية أكثر قوة يتقدمان على حطام جثته.
يعدّ نتنياهو الرجل الأكثر ذكاء في إسرائيل ورجلها القوي، وفي ربع القرن الأخير أمضى حياته السياسية مخادعا لا يتوقف عن حياكة المؤامرات ضد الجميع من خصوم وشركاء، وكان له من القوة والبريق والدعم ما مكنه من حياكة كل المؤامرات التي نجحت جميعها، لكنها اصطدمت العام الماضي عند عنصرية بتسلئيل سموتريتش، عندما وضع عربة نقاء الحكومة من منصور عباس والعرب أمام حصان الائتلاف ليركل نتنياهو إلى المعارضة.
عندما كان رئيس الصهيونية الدينية بستة مقاعد، مارس هذا الابتزاز ضد نتنياهو، وهو الآن أقوى بما لا يقاس، مدركا ممكنات قوته، مطالبا بالوزارة الأهم والأقوى والأكثر ثراء في الحكومة، ولا يهتم باعتبارات نتنياهو الخارجية والداخلية التي لا تعني شيئا بالنسبة له، ولجيش الخاخامين الذين يقفون خلفه، والذين أرسلوا رسالة للخارجية الأمريكية يصطفون خلف تطرفهم دفاعا حد الفخر.
حكومة اليمين الذي يجري تداول معارك تشكيلها، تصيب بعض الإسرائيليين بدهشة حد السخرية، إذ يمكن اختصارها بمجموعة من الخارجين عن القانون يتهيؤون لتسلمها، بدءا من رئيس الوزراء المكلف المثقل بملفات رشاوى وخيانة الأمانة، وسموتريتش الذي يطالب بوزارة الجيش؛ الذي تهرّب من خدمة الجيش الكاملة، وبن غفير الذي يطالب بوزارة الأمن الداخلي والشرطة؛ الذي رُفعت ضده 50 قضية جنائية، أما وزير المالية المفترض أرييه درعي زعيم حركة شاس، فقد سجن ثلاثة أعوام بتهمة اختلاس المال. وتلك تشكيلة مبشرة لكل خصوم إسرائيل.
بدا نتنياهو بعد الانتخاب هرما، لم يعد ذلك الزعيم الذي يقفز ويخطب برشاقة، ويبدو أن نجمه قد بدأ يأخذ بالأفول، إذ يتمرد عليه الصغار الذين أشرف على تربيتهم وتسمينهم. رجل مغرور وصل به الحال لاعتبار أنه يتعامل مع الجميع كقطعان من الأغبياء، هذه المرة يبدو كثعلب كبير السن تستقوي عليه أرانب الغابة، وهي تعلم نقاط ضعفه والزنزانة التي تنتظره والمعارضة التي لن تأتلف معه، وتدرك أن كل مناوراته قد احترقت، ولم يبق في جعبته ما يمكن أن يخدعهم أكثر؛ فقد استنفد كل أوراقه ولم يعد ما يكفي من الوقود لاستكمال رحلة الخداع.
مساحة المناورة أمام نتنياهو تضيق أكثر، فالنتائج التي أرادها في لحظة السكرة الانتخابية تصطدم في لحظة فكرة التشكيل بالواقع، بعد أن وضع نفسه في كتلة لم يكن همه سوى الإفلات من السجن، وذلك قدمه له بن غفير، ولم يكن نتنياهو يدرك أن الثمن لن يكون سهلا، وقد جاءت لحظة الثمن؛ وبخاصة مع وضع نتنياهو؛ سواء مع أقطاب المعارضة التي تريد الانتقام منه بعد صراعات مهينة مع كل أقطابها، أو مع شركائه الذين يمارسون الانتصار وخلفهم جمهور وحاخامات.
ذات مرة قال هنري كيسنجر؛ إن إسرائيل ليس لها سياسة خارجية بل سياسة داخلية، وهذا ما يحدث لأن كل الهم في إسرائيل يتركز على تشكيل حكومة بغض النظر عن كل العالم، كما قال بن غوريون حين سأله الجنود بعد مذبحة كفر قاسم: ليس مهما ما يقول العالم بل المهم ما يفعله اليهود، لذا فإن كل الآراء الدولية حول سموتريتش وبن غفير لا تعني الكثير لدى الإسرائيليين.
سموتريتش مغرور وعنيد، ونتنياهو يلعب في مساحة صغيرة وبأوراق مكشوفة يضعه سموتريتش أمام خيارات بعضها أسوأ من بعض، فهذا غير معني باعتبارات نتنياهو الأمريكية، فماذا سيفعل زعيم حزب الليكود؟ إما أن يقبل تسليم رئيس الصهيونية الدينية وزارة الدفاع، وإما انتخابات حيث تتلاشى الخيارات الأخرى، وخيار الانتخابات أكثر صعوبة على نتنياهو، فهل سيهاجم الصهيونية الدينية؟ تلك كتلته وداخل بيته، وتقزيمها يعني احتمالية السجن.
في الأيام الأخيرة قبل الانتخابات، كانت تقارير حزب الليكود تشير إلى أن الغول الذي قام نتنياهو بتسمينه "سموتريتش بن غفير" سيقوم بابتلاعه، لكن لم يكن أمام نتنياهو خيارات، فهو لم يكن يريد أكثر من عتبة 61 عضوا لينجو من المحكمة، وهو إغراء قدمه الحزب المشاكس، لذا ليس أمام نتنياهو سوى الرضوخ، وقد بدأ بذلك في الاتفاق الأولي مع بن غفير للاستيطان، وهذا مقدمة للتنازلات القادمة للفاشية.