قضايا وآراء

بين عولمة الحرب وعالمية السلام

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
اقتبست عنوان المقال من شعار الملتقى السنوي التاسع لمنتدى أبو ظبي للسلم، الملتئم ما بين 8 و10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث شهد حضور ومشاركة كوكبة من الأكاديميين والباحثين والخبراء من الشرق والغرب، ومجموعة كبيرة من القادة الدينيين، وصناع الرأي، والقيمين على السياسات ومن في حكمهم، وممثلي المجتمعات المدنية ذات الصلة بالسلم والسلام والدعوة إلى نبذ الحروب، والحد من أضرارها. أما سياق اختيار هذا الشعار فجاء في محله، حيث تعرف البشرية قاطبة تحديات الحرب ومخاطرها المحتملة في كافة المجالات، الأمنية، والاقتصادية، والسياسية والثقافية والبشرية، والهوياتية والحضارية.

يُحيل شعار الملتقى على مفارقة في غاية الأهمية والدقة. فمن جهة، هناك نزوع مستمر نحو الحرب، وما يرتبط بها ويدعو إلى اندلاعها من توترات ونزاعات، وفي الآن معا لم تتوقف دعوات العالم إلى إقامة السلم واستتبابه، وتكريس ثقافة السلام وتوطين قيمه، وقد بذلت البشرية جهودا مضنية، وأنفقت أموالا لا حصر لها من أجل ترشيد الحروب والقضاء عليها تدريجيا، ومع ذلك ظل التوازن مختلا لصالح منطق الحرب على حساب منطق السلم وثقافة السلام.. لذلك، تدفع هذه المفارقة إلى تقديم فرضيات للتفسير بُغية تكوين فهم سليم لديمومة تأرجح العالم بين الحرب والسلم، واستعصاء انغراس ثقافة السلام في سلوك الفاعلين المؤثرين في العالم ومؤسساته.
بذلت البشرية جهودا مضنية، وأنفقت أموالا لا حصر لها من أجل ترشيد الحروب والقضاء عليها تدريجيا، ومع ذلك ظل التوازن مختلا لصالح منطق الحرب على حساب منطق السلم وثقافة السلام

من مداخل التفسير وفرضياته ما له صلة بطبيعة النظام الدولي ونوع المصادر المؤثرة والفاعلة في اشتغال مؤسساته، حيث أصبح واضحا بما يشكل الإجماع أن العالم منذ بداية تشكل نظامه الحديث في القرن السابع عشر (معاهدة وستفاليا لعام 1648)، نشأ أوروبيا، وانتقل بالتدريج إلى "العالمية"، فأضحى غربيا على مستوى فلسفته ومنظومة قيمه السائدة.

واللافت للانتباه أن الطفرات النوعية في تطور النظام الدولي، لا سيما بعد الحربين العالميتين الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945)، والبروز الواضح لمراكز قوة جديدة من غير الغرب في آسيا تحديدا، وأمريكا الجنوبية، وإلى حد ما بعض الدول الصاعدة في أفريقيا، لم تُساعد على انتقاله إلى تعددية متوازنة، تأخذ بعين الاعتبار التغيير الجوهري الحاصل في بنيته، وتتيح المجال للأطراف الجديدة في المشاركة في إدارته عبر المساهمة في صياغة قراراته وسياساته الكبرى، بل ظلت المركزية الغربية للنظام الدولي مهيمنة، وتم تجاهل كل الدعوات إلى إصلاحه بشكل أطرافه التعدد مشاركة في بناء حاضره ومستقبله.
لأن المقاربات المرتبطة بـ"المركزية الغربية" هي التي ظلت مهيمنة على النظام الدولي ومتحكمة في سياساته، فقد طغت مصالح القوى الغربية الكبرى، وغابت روح الانتفاع الجماعي مما ينتج العالم من ثروات وخيرات

يترتب عن مدخل المركزية الغربية للنظام الدولي مدخل آخر لتفسير المفارقة المشار إليها أعلاه، يتعلق بما يمكن وسمُه بـ"أنانيات القوى الغربية الكبرى وهيمنة مصالحها" على ما يمكن نعته بـ"المشترك الإنساني". ولأن المقاربات المرتبطة بـ"المركزية الغربية" هي التي ظلت مهيمنة على النظام الدولي ومتحكمة في سياساته، فقد طغت مصالح القوى الغربية الكبرى، وغابت روح الانتفاع الجماعي مما ينتج العالم من ثروات وخيرات، علما أن مؤسسات عديدة، ومؤتمرات كثيرة، وأدبيات لا حصر لها، أكدت على الشراكة، واقتسام الخيرات والثروات، والعمل من أجل المشترك الإنساني. ولأن مطمح الخير العام وأفق المشترك الإنساني ظلا عصيين على الإدراك بسبب تصادمهما مع إرادة المصلحة وأنانيات القوى الغربية الكبرى، فقد ظل منطق الحرب سيد الموقف، ومالت كفة الحروب على ما يشكل نقيضا لها، أي السلم والسلام.

تمثل الثورة الرقمية وما أسفرت عنها من تغييرات جوهرية المدخل الثالث لتفسير مفارقة تأرجح النظام الدولي بين الحرب والسلم. فالتدفق المهول للمعلومات، والتشابك العميق بين مكونات النظام الدولي ومجتمعاته، والمدى البعيد الذي امتدت إليه العولمة وثقافتها وقيمها، ساعدت من جهة على "عولمة الحرب"، خلافا لما كان عليه الأمر إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث غدت البشرية مهددة ليس في مصالح دولها فحسب، بل في كينونة مجتمعاتها واستمرار وجودها.. فيكفي الإطلال على خريطة الحروب والتوترات بكل أنواعها، المباشرة وغير المباشرة (بالوكالة)، والمآسي البشرية والأضرار المادية الناجمة عنها، لنُدرك كلفة منطق الحرب وخطورة ضياع منطق السلم. ومن هنا تبدو الضرورة الوجودية لاستعادة روح السلم وتوطين ثقافة السلام.
يُجانب الصواب من يظن أن الحرب الدائرة منذ شهور بين روسيا الاتحادية وجمهورية أوكرانيا محصورة جغرافيا، وقد لا تمتد بعيدا في الزمن، أو هي مجرد مبارزة عابرة، ستنتهي فصولها قريبا

لذلك، يُجانب الصواب من يظن أن الحرب الدائرة منذ شهور بين روسيا الاتحادية وجمهورية أوكرانيا محصورة جغرافيا، وقد لا تمتد بعيدا في الزمن، أو هي مجرد مبارزة عابرة، ستنتهي فصولها قريبا. لنتذكر أن الحرب العالمية الثانية بدأت بهجوم ألمانيا النازية على بولندا في أول أيلول/ سبتمبر 1939، فدامت ست سنوات حين أعلن عن نهايتها في 2 أيلول/ سبتمبر 1945، مخلفة كوارث بشرية لا حصر لها، علما أن الفرق بين هذه الحرب وما يجري بين روسيا وأوكرانيا نوعي بكل المقاييس، فالحرب الثانية قامت بدون غطاء نووي، أما الحرب الدائرة منذ شهور، والتي قد تنعطف إلى حرب عالمية ثالثة، فهي بين أطرف نووية، أي روسيا ومن معها، وحلف شمال الأطلسي.

يحتاج العالم إلى استعادة عقله، أي رُشده، فمنطق الأشياء يقول إن الغلبة لا تدوم، وأن الحكمة تكمن في الاعتراف المتبادل، والبحث عن المشترك، والسعي إلى توفير ظروف العيش السليم والكريم للإنسان بحسبه مخلوقا يستحق الرفق والرأفة والتكريم، والحروب في كل الأحوال ليست وسائل للمحافظة على القيم الإنسانية في الإنسان.
التعليقات (0)