قضايا وآراء

الفاشية المؤنثة واليمين الأسمر

عوني بلال
1300x600
1300x600
* في الشمال الغربي من القارة الأوروبية رجل أسمر من أصول هندية يقود الآن -وللمرة الأولى بتاريخ البلاد- حكومة المملكة المتحدة. في جنوب القارة، سابقةٌ أخرى حصلت مؤخرا عندما صعدت امرأة لتقود إيطاليا وتبلغ منصباً ظل حكرا على الرجال منذ تأسيس الدولة. ورغم أن السريالية مدرسة فنية في أساسها، فيصعب وصف ما يجري بغير هذا التعبير. الأسمر البريطاني فاز عن حزب محافظ يميني، والشقراء الإيطالية فازت عن حزب بجذور فاشية. والمفارقة طبعا أن التيار الأول معروف تاريخيا بعنصريته البيضاء، والثاني لا يملك سجلا مشرفا في موقفه من المرأة. بين هذين البلدين، تبدو امرأة أخرى متحفزة لاقتناص منصب الرئاسة الفرنسي في الانتخابات القادمة، لتصبح وجه الكراهية الأوروبي ضد الثنائية التي يعشقُ الأوروبيون كراهيتها: المهاجرين والإسلام.

* تطورت العنصرية الأوروبية ومعها كثير من عقائد الكراهية وتكتلات اليمين السياسي، وتأقلمت مع مستجدات المرحلة وتقليعاتها القيمية من دون أن تتنازل عن جوهر مبادئها المؤسسة. ولا يشك أحدٌ في أن مليونيرا أسمر من أصل هندي مثل ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني الجديد، كان يحمل دوما فرص نجاح أكبر بكثير من رجل أبيض ومن أصل إنكليزي مثل جيريمي كوربين. بوسع الآلة الحاكمة البريطانية أن تغفر للمرء سواد بشرته، لكن من الصعب أن تسامحَ أحداً ينوي أن يمسّ قواعد اللعبة ويمد يده إلى مفاصل النفوذ الحقيقي.
تطورت العنصرية الأوروبية ومعها كثير من عقائد الكراهية وتكتلات اليمين السياسي، وتأقلمت مع مستجدات المرحلة وتقليعاتها القيمية من دون أن تتنازل عن جوهر مبادئها المؤسسة

* قبل بضعة أسابيع، خرجت وزيرة الداخلية البريطانية في مشهد مصوّر وفريد من نوعه، وهي تتحدث عن "حلمها" بمشاهدة اللاجئين القادمين للمملكة المتحدة وقد تمّ تحميلهم في طائرة لتقلّهم صوب منفى قسري في رواندا. لم يكن المشهد غريباً للتلذذ الشهواني الذي أبدته الوزيرة وهي تصف حلمها الشاذ وتومئ بيدها في الهواء لتحاكي الطائرة التي تحلم بها، بل لأنها، هي نفسُها، وزيرةٌ ببشرةٍ سوداء ومن عائلة مهاجرة.

لم يعد الأمر مجرد أمثلة ناشزة هنا وهناك. لقد أنفِق الكثير في إعادة هندسة البوصلة القيمية في العالم الغربي، وصار دورانها رهناً لمسائل معروفة: لون البشرة، وقضايا الجندر، والتوجه الجنسي. وإذا وفّرت الأحزاب مواقفَ مقبولة في هذه الملفات، فيبدو أنها تضمن لنفسها رخصة للفجور القيمي في كل ملف آخر. إن واحدةً من الشفاعات (غير المعلنة) لوزيرة الداخلية البريطانية في حلمها المأمول برمي اللاجئين جواً إلى رواندا هما هذان تحديدا: لون صبغتها الجلدية، وجنسها. هذه، عمليا، هي السريالية القيمية للقرن الحادي والعشرين.

* سُكب حبرٌ كثير في جعل مسائل اللون والجندر شُـبّاكاً لقضايا اجتماعيةٍ وسياسيةٍ أعمقَ وأشمل. لكن الواقع على الأرض لا يبدو مسانداً دوماً لنظرية الشبابيك هذه، ويبدو اليمين الأوروبي وكأنه وجد حلاً سحرياً يسمح له بجمع الحُسنيين: ممارسة فائض الكراهية، بالتزامن مع مظهر سياسي يزدهي بكثرة الألوان والأعراق، وتشترك فيه المرأة لجانب أخيها الرجل، والأسود بجانب أخيه الأبيض، كتفاً بكتف، في ممارسة الكراهية وإدامة التمايزات العمودية في المجتمع، والتعاون مع أعتى أنظمة التسلط، والتربّح من السلاح وتجارته.
يبدو اليمين الأوروبي وكأنه وجد حلاً سحرياً يسمح له بجمع الحُسنيين: ممارسة فائض الكراهية، بالتزامن مع مظهر سياسي يزدهي بكثرة الألوان والأعراق، وتشترك فيه المرأة لجانب أخيها الرجل، والأسود بجانب أخيه الأبيض، كتفاً بكتف، في ممارسة الكراهية

* في التراث الإسلامي، يُنسب لعمر بن الخطاب أنه أول من صكّ مفهوم "الورع البارد"، وهي تسمية ساخرة ممن يُظهر تقوىً متكلفة وورعاً استعراضيا في مسائل ثانوية. وإذا ما أزحنا المفهوم سياسيا، فجُلّ ما نشهده اليوم من تصدير وجوهٍ "مهمّشة" لحكومات يمينية هو الورع الأوروبي البارد. مِن المفهوم ألا تكون هذه البرودة محسوسةً لمن هو غارق في السياق الغربي ومتشبّعٌ بأولوياته القيمية، لكن المطلّ على هذا المشهد من مشرق هذا العالم وجنوبه مؤهلٌ لإدراك فكاهة الحنظل التي فيه: احتفاء برئيس أسمر في قارة تُنشئ جيشا ملثما لإغراق قوارب اللاجئين والتنكيل بهم على حدودها. إن الإشارة للازدواجية الأخلاقية بات أمرا مستهلكا، لكن الحدة العاتية لبعض هذه الازدواجيات تصعّب تجاهلها.

* كتب جورج أورويل روايته الشهيرة "مزرعة الحيوان" قبل سبعة عقود ليصوّر تحول مقولات العدالة والمساواة -في سياق شيوعي- إلى غطاءٍ لممارسة نقيضها المطلق. ربما لا يحتاج أحد بالمقابل للكتابة اليوم عن مزرعة الحيوان الليبرالية هذه، والتي تحكي، بالواقع السياسي المباشر، قصة شبيهة جداً.
التعليقات (0)