مقالات مختارة

السعودية وأمريكا: من زواج المصلحة إلى الطلاق المستحيل

توفيق رباحي
1300x600
1300x600

عندما انتهى العاهل السعودي الملك عبد العزيز بن سعود والرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت من التوقيع على التحالف بين بلديهما على ظهر البارجة الأمريكية «يو اس اس كوينسي» الراسية في قناة السويس في «يوم الحب» (14 شباط/فبراير) من سنة 1945، لم يكن يخطر ببالهما أنهما وضعا للتو أسس علاقة استراتيجية سيُكتب لها أن تُعمّر أكثر من اللازم، وتتجاوز كل المحن والمطبات ولا تتدهور إلا لتعود أقوى.


لم يخطر ببال القائدين أن هذا التحالف بين قوة اقتصادية وعسكرية عالمية ضاربة، وشبه دولة حديثة النشأة غارقة في نمط حياة البدو، وعكس التحالفات الطبيعية الأخرى، سيكبر مع الوقت ويصبح الفكاك منه أصعب سنة بعد أخرى.


إذا كان زواج المصلحة قد اشتهر بين الناس بأنه مؤقت يجمع بين طرفين يسعى كل منهما إلى تحقيق مصلحة عابرة، ها هي الرياض وواشنطن تثبتان العكس.


الولايات المتحدة والسعودية من أكثر بلدان العالم تناقضا. اختلافاتهما تغطي أغلب الأصعدة والمجالات.. منظومة الحكم ومؤسساته، السياسة، المجتمع، الثقافة وكل ما يشمل ذلك من مسائل أخلاقية وإنسانية ومعنوية. لكن المصلحة جمعتهما وتغلبت على الاختلافات المادية والمعنوية.


لذلك سيُفاجَأ الذين في واشنطن والرياض (وحتى خارجهما) مسكوا رؤوسهم بين أيديهم خوفا على العلاقة السعودية الأمريكية، أو صلَّوا ابتهاجا بقرب انهيارها، عقب الأزمة الأخيرة التي سبَّبها قرار أوبك بلس، سيفاجَأون بأن هذه العلاقة، محكومةً بالمصلحة، ستعود عاجلا أو آجلا إلى وضعها الطبيعي: الاستقرار والازدهار.


ليس من مصلحة السعودية أن تستغني عن الولايات المتحدة، ولن تستطيع ذلك حتى لو أرادت. السلاح والتكنولوجيا الأمريكيان مهمّان للمسؤولين السعوديين.


الكلام ذاته ينطبق على الولايات المتحدة. المال السعودي يسيل لعاب السياسيين ولوردات الصناعة الحربية الأمريكيين.


السعودية أكبر زبون أجنبي للسلاح الأمريكي بنحو 100 مليار دولار عقود عاجلة وآجلة. 75 في المئة من السلاح السعودي مصدره الولايات المتحدة. خدمات ما بعد البيع والصيانة والتشغيل تكلف السعودية أموالا طائلة تضخها في خزائن الشركات الأمريكية.


التغلغل الأمريكي في الجهاز الأمني والعسكري أعمق مما نتصور. حتى بعد نهاية الخدمة، يعود المئات من كبار الضباط إلى (أو يلتحقون) بالسعودية للعمل مقابل رواتب ومكافآت مجزية.


بعض المشرّعين الأمريكيين والناقمين على السعودية في واشنطن يحاولون توظيف هذه الأرقام في الضغط على السعودية وليّ ذراعها بسبب تحمسها لقرار أوبك بلس الأخير. لعل هؤلاء المشرّعين بحاجة لأن يدركوا أن هذه البيانات تلوي ذراعي صانع القرار الأمريكي وتجعل من الصعب عليه التفريط في زبائن بلاده ومستهلكي منتوجاتها الحربية.

 

من هنا يصبح من غير الوارد في حسابات الأمريكيين التضحية بزبون مثل السعودية. لديهم طرق أخرى للضغط والمناورة من أجل الانتقام أو ردّ الاعتبار لبلادهم، ليس بينها القطيعة النهائية.


بعيدا عن السلاح، هناك ورقة النفط بكل ثقلها ومخاطرها. تحتاج الولايات المتحدة للسعودية في تثبيت سوق النفط. وتحتاج إليها استراتيجيا في المنطقة والجوار. ولسوء (لحسن؟) حظ الولايات المتحدة ألَّا أحد يمتلك الأهلية والقدرة على رعاية المصالح الأمريكية في منطقة الخليج والشرق الأوسط وحتى في العالم الإسلامي الأوسع، أفضل من السعودية. تحتاج واشنطن للرياض أيضا في الحفاظ على التوازنات الإقليمية بما في ذلك العمل على قبول إسرائيل وربما التطبيع معها يوما.


المصالح الأمريكية في الخليج مُرحَّب بها أكثر عندما تدخل عبر بوابة الرياض. وتكون مضمونة وآمنة أكثر إذا نالت تزكية الرياض ومباركتها. من المستبعد أن المسؤولين الأمريكيين لا يدركون هذه الحقيقة ولا يطرحونها إذا ما تعرّضوا لضغط من أجل مراجعة علاقات بلادهم مع السعودية.


هناك دولتان عربيتان تجد الولايات المتحدة صعوبة كبيرة في الاستغناء عنهما، مهما كبرت خطاياهما: السعودية ومصر.


في المقابل، تحتاج السعودية إلى الولايات المتحدة بقدر حاجة الأخيرة إليها. فالسعودية مهووسة بملء مخازنها العسكرية بالأسلحة والذخيرة والتقنيات الحربية. بعض صفقات السلاح تُمليها الحسابات السياسية والرغبة في تجاوز مواقف محرجة أو مشاكل طارئة، أكثر من الحاجة الفعلية لها.


لكن هناك ما لايقل أهمية عن السلاح. التطورات والحروب التي تشهدها منطقة الخليج والشرق الأوسط تفرض على الدول والحكومات الإقليمية تغيير الأولويات، وتعزز الشعور بالحاجة إلى مزيد من الحماية. هذا الشعور لا تُشبعه مشتريات السلاح وحدها. هنا تبرز حاجة السعودية لأمريكا استراتيجيا واقتصاديا.


اتساع نطاق طموحات السعودية إلى ما هو أبعد من الجوار، يُنمِّي بلا شك حاجتها للولايات المتحدة. فمثل حاجة واشنطن للرياض للاطمئنان على مصالحها في الشرق الأوسط، تحتاج السعودية للولايات المتحدة بوابةً لها لدخول عالم الكبار والبقاء فيه. مثل الأمريكيين، يدرك المسؤولون السعوديون أن وضع بلادهم في العالم والغرب بالخصوص، يكون أفضل عندما تخلو علاقاتها مع واشنطن من الأزمات والاضطرابات.


رغبة السعودية في الانضمام إلى مجموعة «بريكس» (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا) لا تعني التخلي عن أمريكا أو انتفاء الحاجة لدعمها. من الممكن أن تكون عضوا في «بريكس» وفي الوقت ذاته حليفا لأمريكا، كما هو حال الهند.


مرّت العلاقات السعودية الأمريكية بفترات حرجة عديدة أسوأها أزمة النفط خلال حرب 1973، وكذلك تبعات هجمات 11 أيلول (سبتمبر). ورغم ذلك نجت هذه العلاقة لأن المصلحة كبيرة ووعي الطرفين بذلك أكبر.


هذا ما يجعل الأزمة التي تسبب فيها قرار أوبك بلس خفض إنتاج النفط لا تختلف كثيرا عن أزمات مشابهة أخرى، سوى من حيث أنها وقعت في ذروة الغزو الروسي لأوكرانيا وفي وجود إدارة ديمقراطية في البيت الأبيض (الجمهوريون أقرب عادة للسعودية من الديمقراطيين).


كل هذا لا يعني أن العلاقة السعودية الأمريكية في مأمن أزلي من الاضطرابات. العالم يتغيّر بسرعة وفي اتجاهات غير محسوبة. حماية التحالف الأمريكي السعودي من عواقب هذه التحولات تتطلب من الرياض وواشنطن مراجعة علاقاتهما اليوم قبل الغد وتكييفها مع واقع يختلف عن ظروف «عيد الحب» 1945.

 

القدس العربي اللندنية

0
التعليقات (0)