هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يكن الخلاف السعودي الأمريكي حول إنتاج النفط وأسعاره هو الأول من نوعه؛ إذ شهدت العلاقات الثنائية في مرات عديدة -وإن كانت قليلة- خلافات حول التسليح وأمن الخليج، وطريقة التعامل مع إيران والحرب على "الإرهاب"، في محطات تاريخية مختلفة.
ولكن الخلاف الحالي بين السعودية والولايات المتحدة هو الأشد على الإطلاق؛ لأنه خلاف مع الإدارة بفروعها كافة، ومع المشرعين الأمريكيين، وليس فقط مع جهة معينة كما كان يحدث عادة في مثل هذه الحالات. يضاف إلى ذلك، أن حدة الخلاف والتراشق الإعلامي غير مسبوقة، وعلى أعلى مستويات.
أسباب الغضب الأمريكي
لا يرتبط الغضب الأمريكي بأسعار النفط وحدها، بل بجملة من الأسباب: أولها أن رفع أسعار النفط جاء قبيل انتخابات نصفية مهمة جدا للإدارة الأمريكية، وهو ما فسر على أنه تدخل في نتائج الانتخابات البرلمانية، على الرغم من أن الاتهام نفسه وجه للإدارة؛ لأنها طلبت تأجيل قرار خفض الإنتاج إلى ما بعد الانتخابات حسب المصادر السعودية. إذا قرئ القرار السعودي كمحاولة لإعادة ترامب للحكم، فإن هذا قد يغضب ليس فقط الديمقراطيين، ولكن بعض الجمهوريين أيضا؛ الذين سيعدّون مزاعم التدخل السعودي في الانتخابات خطرا على الديمقراطية الأمريكية، كما عُدّت التدخلات الروسية المزعومة سابقا على هذا النحو.
ثاني أسباب غضب واشنطن، هو أن القرار جاء في ظل حرب بالوكالة مع روسيا، وهي حرب تكتسب أهمية بالغة لدى الولايات المتحدة ودول الناتو عموما. عُدّ رفع أسعار النفط عبر تخفيض الإنتاج مساهمة غير مباشرة من دول أوبك، وأهمها السعودية في دعم روسيا. تعتقد إدارة بايدن أن قرار السعودية في هذا الوقت بالذات طعنة في الظهر، بينما تؤكد السعودية أن قرارها فني بحت.
ثالث أسباب الغضب الأمريكي وأهمها على الإطلاق، برأينا، هو أن حليفا رئيسيا وتاريخيا لها بات يمارس سلوكا سياسيا غير "متوقع". اعتادت واشنطن وغيرها من دول العالم على دولة سعودية محافظة في سياساتها الخارجية، ومن ثَمَّ فهي سياسة يمكن توقعها والتعامل معها على أساس هذه التوقعات، ولكن سياسة الرياض منذ صعود نجم ولي العهد محمد بن سلمان، لم تعد محافظة بل متسرعة. والأهم أنها غير متوقعة، ما يجعل واشنطن غير قادرة على اتخاذ خطوات مسبقة للتعامل مع توقعاتها لسياسات الرياض تجاه القضايا المشتركة.
لماذا تغيرت السعودية؟
من الصعوبة بمكان تحليل سياسات السعودية خلال السنوات الخمس الأخيرة، وفق منطق العلاقات الدولية وأدوات التحليل الطبيعية؛ لأن هذه السياسات لم تعد محافظة كما ذكرنا، وأصبح توقعها من قبل أي محلل سياسي "مغامرة" محفوفة بالمخاطر!
مع ذلك، يمكن وضع عدة أسباب لفهم سلوك السعودية الأخير تجاه واشنطن، الذي يعدّ تغييرا شبه جذري لقواعد اللعبة بين الطرفين. أول هذه الأسباب، هو رغبة الرياض بدعم عودة ترامب إلى الحكم مجددا، من خلال إضعاف بايدن في الملف الاقتصادي؛ بسبب سوء العلاقات بين البلدين منذ استلام بايدن للحكم، في حين كانت العلاقات في أفضل صورها في عهد ترامب في أثناء فترة رئاسته الأولى. في هذا الإطار، يمكن أيضا اعتبار أن السبب هو الانتقام من بايدن، الذي هاجم السعودية وولي عهدها في أثناء حملته الانتخابية، وفي الشهور الأولى من إدارته.
ثاني الأسباب لتغيير سلوك السعودية، هو أنها فقدت الثقة على ما يبدو بالولايات المتحدة كشريك أمني أو ضامن لحمايتها. حدث هذا بسبب رغبة إدارة بايدن ومن قبلها إدارة أوباما بعقد اتفاق حول ملف طهران النووي، ما سيؤدي بالضرورة للتخفيف عن إيران سياسيا واقتصاديا، فيما تريد الرياض استمرار الضغط عليها؛ باعتبارها خصما رئيسيا لها في المنطقة. زاد الشعور السعودي بانعدام الثقة عندما تعرضت مصالحها النفطية لهجمات في شهر تشرين أول/ سبتمبر 2019 اتُّهِمت إيران بالمسؤولية عنها، ولم تجد الرياض ردا قويا من أمريكا على هذه الهجمات.
ثالث الأسباب وأهمها، هو أن الرياض ربما بدأت تشعر أننا نعيش في عالم متغير لم تعد واشنطن هي القطب الأوحد فيه، وأنها لأول مرة في تاريخها ترغب بتنويع العلاقات والتحالفات. العلاقات المتنوعة تشمل بالضرورة الأقطاب الكبيرة في العالم -وإن كانت أقل قوة وأهمية من واشنطن- وعلى رأسها الصين وروسيا. يلاحظ في السياق، أن الإمارات باتت تمارس السياسة نفسها من تنويع التحالفات -وإن كانت بطريقة أهدأ وأقل صدامية-، كما تبدى في إعلانها عن شراء صواريخ صينية في شباط/ فبراير الماضي، إضافة إلى عزمها على إنشاء قاعدة حربية صينية في العام 2021 قبل أن توقفها بضغط من وزير الدفاع الأمريكي.
أين المصلحة العربية؟
يطل سؤال "المصلحة العربية" في ظل السلوك السعودي المتغير تجاه العلاقات مع الولايات المتحدة، وإن كان هذا السلوك الجديد، لا يمكن التنبؤ حتى الآن أنه سيكون سياسة مستمرة واستراتيجية دائمة للرياض.
من ناحية المبدأ، فإن تنويع أي دولة عربية علاقاتها، وعدم رهن قراراتها وأمنها القومي لطرف بذاته وخصوصا الولايات المتحدة، هو أمر يصب في المصلحة العربية، ولكن المصالح العربية والوطنية والأمن القومي، لا يمكن أن تؤخذ إلا كرزمة واحدة، ومن ثَمّ فإن هناك متطلبات أخرى لكي يصبح تنويع العلاقات الخارجية والتحالفات مفيدا للمصالح السعودية، ومن ثم العربية. أولى هذه المتطلبات هو الاتفاق على حد أدنى من مشروع عربي مشترك، يحدد المخاطر والتحديات والمصالح المشتركة، وتبنى عليه سياسات الدول العربية كافة.
إن هذا الطرح قد ينظر إليه من قبل أصحاب الأفكار الانعزالية كجزء من أفكار قومية "عفا عليها الزمن" بحسب الفكر الانعزالي، ولكن تجربة الحرب الأوكرانية، أثبتت للجميع أن الأمن القومي لأي دولة لا يمكن عزله عن الدول التي تشترك معها في عوامل التاريخ والجغرافيا والهوية. لا يمكن أن يعزل أمن دولة عربية عن بقية الدول الأخرى. هذه حقيقة سياسية وتاريخية.
ثاني المتطلبات لتحقيق مصلحة عربية من سياسة تنويع التحالفات، هي العودة عن الهرولة للتطبيع مع الاحتلال. لا يمكن الابتعاد عن الارتهان لواشنطن واستبداله بالتقرب لوكيله في المنطقة؛ لأن الوكيل سيمثل دائما مصالح واشنطن، وسيعود لدوره كلما تطلب الأمر كما حصل في الموقف "الإسرائيلي" المتدرج تجاه الحرب الأوكرانية، الذي انتقل من "الحياد" إلى "إدانة" الغزو الروسي، ليصل أخيرا لإرسال مرتزقة وأسلحة إلى أوكرانيا؛ لأن هذا ما يتطلبه تمثيل الاحتلال لمصالح واشنطن.
ثالث المتطلبات لصناعة "عقيدة" سياسية جديدة في السعودية وغيرها من الدول العربية، هي التصالح مع شعوب هذه الدول، واستعادة شرعية الحكم من خلال السماح بهامش من التمثيل الشعبي والنقاش السياسي، والعودة عن سياسة "التوحش" التي صبغت سلوك كثير من الدول العربية في السنوات العشر الأخيرة. لا يمكن لدولة أن تواجه الآخرين بكامل قوتها إذا لم تمتلك شرعية شعبية، وإذا لم تتصالح مع شعبها.
خلاصة القول؛ إن السلوك السعودي الجديد الذي قد يكون منطلقا من أسباب "انتقامية" ضد بايدن، أو "سياسية" قرأت تغيرا في العلاقات الدولية، يمكن تطويره ليصبح استراتيجية تصب في المصلحة السعودية ثم العربية، إذا استطاعت المملكة بالتعاون مع شقيقاتها الأُخر بناء مشروع الحد الأدنى المشترك، وإذا تصالحت هذه الدول مع شعوبها، وتركت الهرولة نحو التطبيع مع الاحتلال، واستعادت أنظمتُها شرعيتَها الشعبية التي تهشمت كثيرا خلال السنوات الماضية.