مقالات مختارة

«عرين الأسود» الفلسطيني

عبد الحليم قنديل
1300x600
1300x600

مفارقات الحالة الفلسطينية لا تنتهي، فالفصائل على حالها من الانقسام المزمن، بينما الشعب الفلسطيني وشبابه في مكان آخر، أكثر من مئة شهيد سقطوا برصاص قوات الاحتلال في الشهور الأخيرة، إضافة لآلاف الجرحى ومئات الأسرى الجدد، وشباب فلسطين يردون بما ملكت الأيدي من سلاح بدائي شحيح، وبفيضان الروح الجريئة المقتحمة، وبعمليات لا تنسب غالبا إلى الفصائل الفلسطينية المعروفة، وبمبادرات فردية وعائلية وجهوية، وبالذات في الضفة الغربية والقدس المحتلة، من كتائب «جنين» إلى كتائب «نابلس»، وإلى بطولة الفدائي المجهول من مخيم «شعفاط» شمال القدس، الذي صرع مجندة إسرائيلية وأصاب ثلاثة جنود آخرين، واختفى في زحام المخيم الفلسطينى، الذي يضم 140 ألفا، وفرضت عليه قوات الاحتلال حصارا خانقا، لم ينفك حتى وقت كتابة السطور، بينما كانت جبال «نابلس» تشهد إعلانا لافتا عن تنظيم فدائي جديد باسم «عرين الأسود»، لا يطلق رصاصه في الهواء، بل إلى صدور المحتلين وقطعان المستوطنين حصرا، بينما يواصل كيان الاحتلال الإسرائيلي رعاية وحماية جحافل المقتحمين للمسجد الأقصى المبارك، وتمكينهم من تقديم قرابينهم الوثنية وأداء صلواتهم التلمودية في باحات «الأقصى»، وسط صمت عربي رسمي مفجع، لم يعد حتى يستنكر أو يشجب، بل صار أقصى ما يفعله غالبا في البيانات الركيكة، أن يعبر عن «قلقه» على طريقة بان كي مون أمين عام الأمم المتحدة الأسبق، الذي اشتهر بإشهار «القلق» كلما ألمت بالعالم مصيبة أو حرب، قبل أن يعود إلى موطنه الكوري محمولا على مركب «القلق» المثير للسخرية.


وفي الجزائر، تواترت اجتماعات الحوار بين الفصائل الفلسطينية، وتجدد الأمل المراوغ الباهت في إنهاء سيرة انقساماتها، مع التخوف المتحفظ من عودة «ريمة» لعاداتها الفلسطينية المتقادمة، فقد عقدت عشرات ربما مئات من الاجتماعات بالخصوص، وعلى مدى 15 سنة أعقبت الصدام الدامي في غزة أواسط 2007، وعلى جغرافيا ممتدة من «مخيم الشاطئ» إلى مكة والدوحة وبيروت، وغالبا في القاهرة، وصدرت عن الاجتماعات وثائق اتفاق تفصيلية للمصالحات، قد لا تختلف في شيء عن الورقة التي قدمتها الجزائر كعنوان للاتفاق، وبمحاورها المكررة، تفصيلا عن تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة، وإحياء وتوسيع «منظمة التحرير الفلسطينية»، وتكوين مجلسها الوطني بالانتخاب، وإرفاق جداول زمنية لتعهدات التنفيذ، لكن وثائق الاتفاق كلها تعثرت في التنفيذ، وفي تبادل إلقاء التهم، وبقاء الأوضاع على ما هي عليه، واستمرار الانقسام الجغرافي والسياسي بين سلطتي رام الله وغزة، إحداهما منسوبة لحركة «فتح»، والأخرى لحركة «حماس»، في واقع مرير محبط، لا يحقق أدنى مصلحة للشعب الفلسطيني، ولا يصب في غير مصلحة كيان الاحتلال الإسرائيلي، ويحشر الفلسطينيين بين مطارق الاحتلال وسندان الانقسام الفصائلي المدمر.


وقد لا نريد أن نصادر على المطلوب، ولا أن نحكم مسبقا على فرص نجاح المحاولة الجزائرية الجديدة، فالجزائر كبلد له قيمة رمزية هائلة، وقصة التحرير الجزائري، أفضل مثال مفيد ملهم لحركة التحرير الفلسطينية، الجزائر تعرضت على مدى 130 سنة لاحتلال استيطاني فرنسي، وتوالت قوافل الشهداء من أبناء وبنات الجزائر، ووصلت إلى نحو المليون ونصف المليون شهيد وشهيدة، وتتابعت الرايات، وحتى الخلافات والتصفيات، إلى أن جرى تأسيس «جبهة التحرير الوطني»، التي انطلق بيانها الأول من القاهرة في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، وهو التاريخ ذاته الذي تقرر كموعد للقمة العربية المقبلة في الجزائر، التي ترفض بعناد كل سير التطبيع القديمة والجديدة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتطمح لجعل قمتها فلسطينية بامتياز، وقد تعلو النبرة الفلسطينية بالفعل قليلا في بيان قمة الجزائر المرتقبة، لكن ذلك قد لا يعني سوى نوع من الدعم المعنوي اللفظي لحركة الشعب الفلسطيني، فقد راح الزمن القديم، الذي كانت النظم العربية فيه تتغنى بالحق الفلسطيني تكريسا لبقاء سلطاتها، ودخلنا في وقت آخر أسود من قرون الخروب، صارت فيه نظم عربية متكاثرة العدد تمضي في الاتجاه العكسي، وتستقوي بكيان الاحتلال نفسه لتثبيت دعائم حكمها الاستبدادي، بل يتفاخر بعضها بعلاقاته مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وبتكديس اتفاقاته الأمنية والاقتصادية والاستثمارية مع «إسرائيل»، إلى أن صارت خيانة القضية الفلسطينية محض «وجهة نظر»، بل وجهة النظر الغالبة إلى حين، وزالت معها المحرمات والمقدسات والبديهيات جميعا، وهو ما يجعل بيانات القمم العربية حبرا يجف فوق الورق، ومن دون أن يشفع أبدا بتقديم عون فعلى جماعي مؤثر للشعب الفلسطيني المحاصر المظلوم، وهو ما تزيد طينته بلة مع الانقسام الفلسطيني الفصائلي المهلك، فلا وحدة صف عربي تبقت من حول الموضوع الفلسطيني، ولا حتى وحدة صف فصائلي فلسطيني.


والمحصلة ظاهرة، وهي أن الشعب الفلسطيني ترك وحيدا في محنته، وليس الآن فقط، بل من عقود مضت، وما تعودنا على وصفه بالمجتمع الدولي، الذي يقصد به غالبا حكومات أمريكا وأخواتها وعبيدها في المجتمع الغربي، كلها تتسابق لإعلان صهيونيتها، على طريقة لحاق رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة ليز تراس بالرئيس الأمريكي جو بايدن، وإشهارها التفاخر بكونها «صهيونية كبيرة»، وعزمها نقل السفارة البريطانية في «إسرائيل» إلى القدس، لحاقا بما سبقت إليه واشنطن، وإهدار 947 قرارا مؤيدا للحق الفلسطيني في مؤسسات الأمم المتحدة، وهو ما يعني ببساطة، أن التأييد الدولي الرسمي للحق الفلسطيني إلى انكماش مرعب، عبّر عن صدمته به الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في خطابه الأخير على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا أمل في تغيير الموقف الدولي الرسمي كثيرا أو قليلا، إلا مع كسر أحادية الهيمنة الأمريكية الكونية، والتحول لعالم متعدد الأقطاب متوازن القوى، وهو ما يجري بعضه اليوم مع وقائع حرب أوكرانيا، لكن ضمور الموقف الدولي وتآكل الموقف العربي، لن يتغير جوهريا بغير صحوة ممتدة لحركة الشعب الفلسطيني نفسه، ولا أحد يملك ترف المزايدة على كفاح الجمهور الفلسطيني، فالعرب مستسلمون في أغلبهم، أو مشغولون بمآسٍ تفاقمت في عدد لا بأس به من الأقطار العربية، وعادت قضية فلسطين فلسطينية بحتة، بأكثر من أي وقت مضى، وانتفاضات الشعب الفلسطيني لم تتوقف يوما، رغم بؤس الظروف المحيطة، وليس من أحد يزعم أن الفلسطينيين شعب من الملائكة، ولا يوجد شعب كذلك أبدا، وفي رحلة تحرير الجزائر الدامية من الاحتلال الفرنسي الاستيطاني، ظهر مئات وآلاف الخونة وذوو «الأقدام السوداء»، فلكل شعب أو أمة خونة ومقاومون، وهكذا الحال في الشعب الفلسطيني أيضا، خصوصا مع تكاثر أيادي العبث والتخريب الإقليمية والدولية، لكن البوصلة الصحيحة تبقى في وعي المقاومين لدروس التاريخ والحاضر، فلم توجد أبدا حركة مقاومة لها قوة وسلاح المحتلين نفسهما، لكن فرصة زوال الاحتلال تظهر وتتأكد، وتصبح واقعا في أحوال بعينها، وبالذات حين يدرك الاحتلال أن تكلفة بقائه أعلى من فوائده، وهذا ما ظهر في ملحمة إجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن الجنوب اللبناني مطالع القرن الجاري، ثم في إجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن قطاع غزة زمن الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وفي معركة «سيف القدس» أواسط 2021، التي كانت معبرا لانتقال المقاومة الفلسطينية إلى طور جديد، بلور وحدة كفاح الشعب الفلسطيني من غزة إلى القدس والداخل المحتل منذ نكبة 1948، وبما عكس حيوية شعب، صارت له الغلبة السكانية على أراضي فلسطين التاريخية بكاملها، وحيوية أجيال الفلسطينيين الطالعة، التي بادرت من دون توجيه رسمي وفصائلي، إلى استئناف مقاومة صلبة جماهيرية ومسلحة، تصاعدت قفزاتها الفدائية الجسورة في الداخل والضفة الغربية والقدس، وراكمت تحديا مقتدرا لكيان الاحتلال، الذي فشل إلى اليوم في ما يسميه حروب «كسر الأمواج»، فلا القتل يجدي، ولا الاعتقالات التي طالت حتى الأطفال، بينما انتشرت بؤر المقاومة من جنين إلى الخليل ونابلس وشعفاط، وبدا أن الوحشية الإسرائيلية، لا تقود سوى للمزيد من أعمال المقاومة وتوالد كتائب «عرين الأسود»، بينما العائق الفعلي أمام المقاومة، يأتي من مقام آخر، هو الفجوة التي لا تزال متسعة بين موقف الفصائل الرسمية والتحرك التلقائي النقي لشبان وشابات فلسطين، إضافة للقيد الذي تمثله التزامات «أوسلو» وأخواتها وتنسيقاتها الأمنية المشينة، وتوفيرها وضعا مريحا لاحتلال منخفض التكاليف، وهو ما يعنى بوضوح، أن إلغاء «أوسلو» وتجاوزها، وإسقاط الاعتراف بشرعية مدعاة لكيان الاحتلال الإسرائيلي، هو مفتاح نجاح حوار الفصائل واتفاقها المجدي، وليس قصص الانتخابات وأخواتها وتوابعها من السلطات الوهمية المتنازع عليها.

 

(القدس العربي اللندنية)

 
0
التعليقات (0)

خبر عاجل