مقالات مختارة

العراق: من إنقاذ الوطن إلى إدارة الدولة على علاتها!

يحيى الكبيسي
1300x600
1300x600

لا يمكن فهم طبيعة التحولات في التحالفات السياسية في العراق، إلا على أنها تحالفات براغماتية تقوم على أساس المصالح الضيقة والمباشرة للمتحالفين، وربما لداعميهم الإقليميين، مع محاولات مفضوحة لإعطاء تلك التحالفات أبعادا سياسية مزيفة، من أجل تسويقها.

ينطبق هذا التوصيف على التحالفات السياسية ما قبل الانتخابات، التي تقوم على ثلاثة عوامل أساسية؛ تمويل الحملات الانتخابية للأحزاب والمرشحين، والقدرة على استخدام أدوات الدولة ومواردها في الحملات الانتخابية لرشوة الجمهور، والعلاقة بالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات والقضاء، وأخيرا القدرة على التزوير.


ويصدق على التحالفات السياسية التي تأتي بعدها في سياق تقاسم السلطة والنفوذ ومداخل الاستثمار في المال العام.


ومراجعة سريعة لطبيعة التحالفات والمتحالفين قبل وبعد الانتخابات منذ العام 2010 في أقل تقدير، حتى انتخابات عام 2020، تؤكد هذا التوصيف، فتجد تحالفات تضم خليطا غير متجانس من الأحزاب والمرشحين لا يجمعهم سوى اسم التحالف، لهذا كانت هذه التحالفات دائما هشة، وسريعة التفكك، وغير قابلة للبقاء سوى لمرحلة الانتخابات والمرحلة الأولى من تشكيل الحكومة، لتنفضّ سريعا بعدها.


تشكلت القائمة العراقية، عام 2010، من خليط لا يجمعه سوى الدعم والتمويل الإقليمي، والرغبة في الفوز. لكن القائمة سرعان ما تحللت بعد إعلان نتائج الانتخابات مباشرة، وصارت كل عصبة فيها تبحث عن مصالحها المباشرة، ومناصبها التي تتيح لها الاستثمار في المال العام، لينتهي الأمر بها كتلة هلامية لا تتخطى حدود الإعلام، وكانت اللحظة الفاضحة لهذا التفكك هي لحظة عجزها عن جمع تواقيع أعضائها على سحب الثقة من المالكي في حزيران عام 2012.


قبيل انتخابات 2010، كان الصراع بين تحالف دولة القانون، والائتلاف الوطني العراقي (التيار الصدري والمجلس الأعلى الإسلامي) على أشده، وكان قد سبق ذلك مواجهة مسلحة بين المالكي والتيار الصدري في الأعوام 2007 و 2008، لكنهما اجتمعا بعد إعلان نتائج الانتخابات مباشرة لتشكيل تحالف جديد لضمان منصب رئيس مجلس الوزراء، متناسين كل صراعاتهم السابقة، وذلك بعد القرار المسيس الذي أقرته المحكمة الاتحادية العليا المتعلق بتفسير المادة 76 من الدستور.


وتهافتت القوى السياسية في عام 2018 إلى التوقيع مع التحالفين الرئيسيين اللذين كانا يتسابقان لإعلان نفسيهما الكتلة الأكثر عددا في مجلس النواب في آن واحد، ومراجعة القوائم التي أعلنت حينها تفضح هذه المهزلة.


بعد المصادقة النهائية على نتائج الانتخابات المبكرة التي جرت عام 2021، أعلن في 23 آذار/ مارس 2022، عن تحالف «إنقاذ الوطن» الذي ضم فضلا عن تيار الصدر تحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني، وكانت المقولة الجوهرية لهذا التحالف هي أن نظام التمثيل النسبي الواسع الذي اعتُمد خلال السنوات الماضية، والذي يقضي بمشاركة جميع القوى الفائزة الممثلة في مجلس النواب في الحكومة، قد أدى إلى تكريس الفساد وسوء الإدارة في الدولة، ومن ثم، لا بد من الذهاب إلى نظام تمثيل نسبي محدود لا يضم الجميع لتشكيل الحكومة (أطلق عليها تجاوزا حكومة أغلبية سياسية)، يحرص على تمثيل الهويات المختلفة فيها، ويحرص في الوقت نفسه على ضمان معارضة فاعلة داخل مجلس النواب لضمان الرقابة الصارمة على أداء السلطة التنفيذية.


ومن يعود إلى الكتابات والتصريحات والتغريدات التي كان يعلنها المتحالفون ضمن «إنقاذ الوطن»، سيجد تنظيرا متطرفا يريد إقناع الجميع بأن لا بديل عما يؤمنون به سوى الإصرار على خراب «الوطن».
ولكن الأمور تغيرت تماما بمجرد استقالة التيار الصدري من الحكومة، ليبدو الأمر وكأن التيار الصدري وحده ما كان يؤمن بشكل حقيقي بمقولة حكومة الأغلبية السياسية كما يسميها، فقد انقلب حلفاؤه على المقولة، وذهبوا للتحالف مع الآخرين الذين لا يزالون مصرّين على حكومة التمثيل النسبي الموسعة، التي تضم الجميع لتشكيل تحالف «إدارة الدولة».


لا يمكن فهم هذا التحول إلا في سياق السياسة العراقية التي لا تقاليد ولا أعراف لها، والتي تعلو فيها المصالح المباشرة على المصالح العامة التي لا وجود لها من الأصل، والتي يشكل فيها الاستثمار في المال العام، بوصلتها الوحيدة.


فلولا قبول كلٍّ من السيادة والحزب الديمقراطي من الأصل بمقولة «الأغلبية السياسية» التي طرحها السيد مقتدى الصدر، ما كان للتيار الصدري أن يستمر في الإصرار على مقولته تلك، إذ لم يكن منطقيا، ولا عمليا بحسابات الأرقام في مجلس النواب، أن يصر على مقولته تلك من دون حلفاء يمكنونه من تحقيقها.


وكانت سرعة قبول استقالة نواب التيار الصدري، وسرعة الدعوة لجلسة أداء اليمين الدستورية للنواب البدلاء، وحضور نواب السيادة والديمقراطي تلك الجلسة لتحقيق النصاب، مؤشرات لا تقبل التأويل على تخليهما التام عن حليفهما السابق، مع معرفتها أن الصراع في العراق لا يحتكم إلى تصويت مجلس النواب، بل يحتكم إلى الشارع والسلاح.


ومن ثم يتحمل كل من تحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني مسؤولية أخلاقية كبرى فيما يمكن أن تصل إليه الأمور، خاصة أنهم يعرفون تماما أن أي حكومة قادمة يهمين عليها الإطار التنسيق، ويحتكر قرارها دعاة «شد البرغي إلى آخر سن»، ستكون مهمتها الأولى تحجيم التيار الصدري وربما استئصاله، ويعرفون تماما أن التيار الصدري لم يعد بإزاء صراع سياسي، بل معركة وجود حقيقية، ربما تدفعه إلى اتخاذ خيارات صعبة، تتدرج من الاحتجاجات إلى المواجهة المسلحة لمنع ذلك.


ولا يمكن لمسرحية رخيصة مثل مسرحية استقالة رئيس مجلس النواب، أو التصريحات العبثية عن ضرورة الحوار مع التيار الصدري، أو الحج إلى الحنانة، أن تكون مخرجا من المأزق الحقيقي الذي أسهم فيه تحالف السيادة والديمقراطي الكردستاني بنصيب وافر في الوصول إليه بالشراكة مع الآخرين.


لا يمكن للسياسة أن تتخلى عن الأخلاق عندما يتعلق الأمر بمصلحة المواطن والوطن، أو يتعلق بالسلم الأهلي، ومتى ما حصل ذلك، تفقد السياسة معناها وتتحول إلى مجرد أداة لتقاسم السلطة والنفوذ بين مستثمرين لا يرون أبعد مصالحهم.


 القدس العربي

0
التعليقات (0)