هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ما الذي فعلته حكومة الاحتلال في الفترة الأخيرة لتصبح مستحقة لكل هذا الاعتبار والتقدير؟ وما الذي فعله أهل فلسطين ليتم التضحية بهم وبأرضهم وكأنهم كبار مجرمي التاريخ؟ وإلى أي مستوى ستهبط معنويات المهرولين وأخلاقهم؟
الأمر الواضح أنه لا يمر أسبوع بدون أن يشهد قتل عدد من أبناء فلسطين وبناتها، أغلبهم في ريعان الشباب، حتى أصبح ذلك أمرا معتادا لا يستحق أن تذرف من أجله دمعة، ولا يحظى حتى بتغطية من قبل وسائل إعلام «العالم الحر». هذا الهبوط المعنوي والقيمي له شواهد عديدة، منها: أولا الهرولة غير المسبوقة من قبل بعض الحكومات العربية للتطبيع مع الاحتلال، وفرض التطبيع على المواطنين بأساليب شتى. ثانيا: تراجع الدول الغربية ليس عن دعم الفلسطينيين فحسب، بل عن احترام القرارات الدولية التي تعتبر الضفة الغربية (ومن ضمنها القدس) وقطاع غزة «محتلة»، وهرولتها لنقل سفاراتها إلى مدينة القدس المحتلة. ثالثها: فتح المجال للاحتلال لممارسة دبلوماسية واسعة، استعاد بها ما فقده من مصداقية واحترام واعتراف من قبل دول العالم. رابعها: التماهي مع المشاريع الإسرائيلية في المنطقة، ومنها تجريم كل من يرفض الاعتراف بالاحتلال من مجموعات وهيئات وحكومات. وهل يمكن النظر للتنكيل برموز الحركات الإسلامية والوطنية، ومنها حركة النهضة التونسية إلا من خلال هذه الزاوية؟
هذا التنكيل سيتواصل في المستقبل المنظور، وفق خطط شيطانية تهدف لتغييب الأصوات الرافضة للتطبيع، خصوصا أصوات القيادات والرموز والعلماء والمفكرين.
في الأسبوع الماضي، قال رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست الإسرائيلي، رام بن باراك للإذاعة الإسرائيلية؛ «إن هناك تعاونا واسعا مع الإمارات»، لكنه رفض الإدلاء بأي تعليق لتوضيح مدى ذلك التعاون. وتزامن ذلك التأكيد مع موافقة كيان الاحتلال على بيع منظومة رافائيل المتطورة للدفاع الجوي للإمارات في أول صفقة معلنة بين البلدين منذ تطبيع العلاقات بينهما في العام 2020. وبإمكان هذا النظام إطلاق صواريخ «سبايدر» من منصات مثبتة على مركبات، وتستخدم للدفاع ضد التهديدات ما بين قصيرة المدى وطويلة المدى. كما اشترت الإمارات العام الماضي عددا من الطائرات المسيّرة الإسرائيلية للقيام بعمليات أمنية وتجسسية في دبي.
هذا الحماس الإماراتي لإلغاء الحواجز كافة مع الاحتلال، يعكس توجها غريبا على المنطقة، التي ما يزال أغلب شعوبها داعما لفلسطين ورافضا الاحتلال ومستمرا في المقاطعة السياسية والاقتصادية.
صحيح أن هناك ضغوطا غربية واسعة، خصوصا من جانب إدارة بايدن لإلغاء أشكال المقاطعة كافة، ولكن هناك كذلك مشاعر كرامة وعزة لدى أبناء المنطقة، الذين رفضوا الاستسلام للاحتلال حتى في أحلك الظروف. فالهزائم العسكرية في العقود السابقة لم يصاحبها هزائم معنوية أو نفسية، بل التزمت المنطقة بموقف ثابت لم يتغير منذ ثلاثة أرباع القرن، يرفض التخلي عن فلسطين أو الاعتراف بالكيان الإسرائيلي. ولذلك يتعمق الشعور بالصدمة والتقزز عندما تبادر جهة سياسية للقفز على ثوابت الأمة واتخاذ قرار من طرف واحد للخروج على إجماعها بطرق مثيرة للاشمئزاز والتقزز. ففي الوقت الذي ما يزال مجلس التعاون الخليجي عاجزا عن التوصل إلى اتفاق شامل للتجارة الحرة بين دوله، لم تجد حكومة البحرين مانعا من بدء محادثات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي بشأن اتفاق تجارة حرة. صحيح أن «إسرائيل» أبرمت مع الإمارات في أيار/مايو الماضي اتفاقا ثنائيا للتجارة الحرة، هو الأول لـ «إسرائيل» مع دولة عربية، إلا أن ذلك لا يوفر تبريرا كافيا للهرولة لهذا الاتفاق الذي لن يفيد شعوب المنطقة في شيء، بل سيوفر فضاء أوسع للتجارة الإسرائيلية التي تنطلق من أراض محتلة ظلما وعدوانا.
وبعد اجتماع وزيرة الاقتصاد الإسرائيلية أورنا باربيفاي مع وزير التجارة في حكومة البحرين الأسبوع الماضي لبدء تلك المفاوضات، قالت باربيفاي؛ «إن اتفاق تجارة حرة مع البحرين في إطار تعزيز التعاون الإقليمي الأوسع، سيعزز العلاقات الاقتصادية بين الدول ويزيد حجم الاستثمارات، ويزيل الحواجز التجارية ويوفر فرصا لرجال الأعمال والشركات». يتم ذلك برغم المعارضة الواسعة من قبل شعب البحرين لأي تطبيع مع الاحتلال. وستستعمل هذه الاتفاقية لإجبار رجال الأعمال البحرانيين على التعامل المباشر مع محتلي أرض المعراج. وسيدخل الكثيرون في صراع داخلي بين الالتزام بالمبادئ أو الاستسلام من أجل حماية المصالح.
هذه التطورات تكشف مدى تراجع مشاريع العمل العربي المشترك، وكذلك فشل مجلس التعاون في أطروحاته الأساسية التي يفترض أن تنسق مواقفه ككتلة سياسية إزاء القضايا المهمة، وعلى رأسها قضية فلسطين والصراع العربي ـ الإسرائيلي. فالهرولة دون فرامل في اتجاه «إسرائيل» لن يساهم في بسط الأمن والاستقرار في المنطقة؛ لأن الاحتلال من أهم أسباب التوتر والصراع. فهناك طرفان دائما لأية مشكلة، وما لم تحل قضية فلسطين فلن يسود الأمن. وحدها «إسرائيل» تسعى لخلق أمن أحادي يتوفر للمستوطنين فحسب، ولا يراعي مشاعر السكان الأصليين. ولذلك فطوال ثلاثة أرباع القرن، فشلت الأطراف كافة، بما فيها الأمم المتحدة، في فرض نسخهم الباهتة من «السلام». وغاب عن هؤلاء أن «السلام المفروض» لا يختلف كثيرا عن «الصراع المفروض». ويقضي منطق العدالة أن يتساوى الجميع في فرص الحياة لكي تتلاشى مشاعر الغبن والشعور بالظلامة.
ومن المؤكد أن الحكومات التي تبحث عن أمنها بالتماهي مع كيان فاقد للشرعية السياسية والأخلاقية، لن تحقق لنفسها هذا السلام. والأخطر من ذلك، أن الاعتماد على الخبرات والأسلحة العسكرية الإسرائيلية إنما يخدم مبدأ التفوق العسكري الإسرائيلي، الأمر الذي سيزيد الأزمة تعقيدا. ويستحيل أن يثق الزعماء الإسرائيليون بالحكام الذين يهرعون نحوهم، لأنهم يعلمون أن هذه الهرولة غير مدعومة شعبيا، فهي مبادرات وسياسات مستعجلة ومدفوعة من قبل الغربيين الذين لم يسايروا الاحتلال فحسب، بل دعموه منذ البداية وما يزالون يزودونه بما يقوّيه معنويا وماديا وعسكريا.
في الأسبوع الماضي، أبلغت رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس نظيرها الإسرائيلي يائير لبيد بأنها تراجع موقع السفارة البريطانية لدى الكيان، وذلك بنقلها من تل أبيب إلى القدس. ويبدو أن الرئيس الأمريكي الذي اتضح أنه أكثر التزاما برعاية «إسرائيل» من الرؤساء الأمريكيين السابقين، مصر على تطبيق سياسته ذات الأبعاد العديدة؛ فهو يدفع الحكومات العربية للتطبيع ويشجع الحكومات على نقل سفاراتها إلى القدس، ويستهدف داعمي فلسطين في أمريكا بشكل خاص، كما يستهدف رافضي كيان الاحتلال من دول ومنظمات. وفي خطابه أمام الدورة الحالية للجمعية العمومية للأمم المتحدة الأسبوع الماضي، أشار بايدن إلى ما يسمى «حل الدولتين»، واعتبره أكثر ضمانا لأمن «إسرائيل»، دون أن يعلن عن مشروع سلام جديد.
وفي بداية عهده، تحسنت علاقات الفلسطينيين مع واشنطن لأن سلفه، دونالد ترامب كان مؤيدا بشدة لـ «إسرائيل» لكن بعض الفلسطينيين يرون أن الإدارة شديدة الحذر، وتركز على البرامج الاقتصادية أكثر مما تفعل على ما يرونه الجوهر السياسي للنزاع. ويمارس بايدن سياسة هادئة للإسراع بتطبيع عالمي ليس مع الكيان فحسب، بل مع دعم المشروع الإسرائيلي بالاحتلال الكامل والدائم لمدينة القدس. ويبدو أنه نجح بإقناع الحكومة البريطانية الجديدة بنقل سفارتها إلى القدس، الأمر الذي أثار غضب الفلسطينيين. وقال حسام زملط، رئيس البعثة الفلسطينية في لندن؛ إن أي تحرك لنقل السفارة البريطانية من شأنه أن «يدمر» العلاقة مع الحكومة البريطانية. وفتحت الولايات المتحدة سفارة في القدس في عام 2018 في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، منتهكة بذلك سياسة الولايات المتحدة المتبعة منذ عقود، من خلال الاعتراف بالمدينة عاصمة لـ «إسرائيل». ورحبت «إسرائيل» بهذه الخطوة وانتقدها العالم العربي والحلفاء الغربيون. في ذلك الوقت، لم يكن لدى بريطانيا في عهد رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي خطط لنقل سفارتها، ولم توافق على الخطوة الأمريكية.
(القدس العربي)