هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أمرٌ أوّل، مشروع تماماً، أن يلتزم أناس بقاعدة أخلاقية أثيرة تقول أن لا شماتة في الموت، وأن يجد المرء في الحزن على الملكة إليزابيث الثانية سلوكاً مفهوماً، عاطفياً ذاتياً أو جَمْعياً طقسياً لا تغيب عنه عناصر التضخيم والتفخيم أو حتى الميلودراما؛ وأمرٌ ثانٍ، لا يقلّ شرعية بل لعله أكثر وجوباً من الوجهة الأخلاقية إياها، أن يلتزم أناس آخرون بإحقاق حقوق التاريخ ذات الصلة المباشرة بحصّة الملكة الراحلة في إرث عقود وقرون من تاريخ تاج استعماري، إمبريالي، عنصري، مجرم، لم يرتدع في مراحل أخيرة عن مغازلة الفاشية والفساد والانحطاط الجنسي، على مستوى الهرم الأعلى وليس الأدنى من أفراد آل وندسور.
الأميال من طوابير البشر الذين احتشدوا لمتابعة مراسم الجنازة، أو باتوا الليل وأمضوا ساعات طويلة في انتظار الفوز بفرصة إلقاء النظرة الأخيرة، لم يكن السواد الأعظم بينهم على جهل بالأمرَين معاً؛ والأرجح أنّ غالبية أخرى في صفوفهم كانت تدرك، جيداً أيضاً، جدل العلاقة بين تاج جرى تلميعه بعناية منهجية، وتجميل حاملته على مدار 70 سنة؛ والتاج ذاته، الملطّخ بدماء 57 بلداً ومستعمرة ومحمية على امتداد العالم، الملوّث بقبائح الإبادة والاستعباد والاستعمار والحروب ونهب 20% من ثروات الشعوب، على امتداد إمبراطورية تفاخر صنّاعها بأنّ الشمس لم تكن تغرب عن أطرافها.
ثمة، بالطبع، أولئك الذين يساجلون بأنّ صيغة الملكية البريطانية دستورية أوّلاً، وأنّ الملك يملك ولا يحكم؛ وهذه مغالطة فاضحة تتجاهل أنّ مؤسسة الحكم السائدة منذ 400 سنة لا تنهض أصلاً على فصل صريح بين التاج ومجلس العموم واللوردات، إذْ لا يوجد دستور مكتوب يُسقط المسؤولية عن واحد دون الثلاثة. مغالطة مماثلة يمكن أن تبدأ من التساؤل التالي: إذا كانت الدراسات والأبحاث والإحصائيات تبرهن، اليوم، على أنّ «شركة أفريقيا الملكية» احتكرت تجارة الرقّ وشحنت عبيداً إلى أمريكا أكثر من أية شركة استرقاق أخرى، فهل يصحّ فصل الشركة عن التاج، أو عن مؤسسة الحكم؟
فإذا ذهب المرء إلى فضائح آل وندسور السياسية أوّلاً (دور إليزابيث الثانية الشخصي في إسناد شاه إيران تمهيداً لإجهاض حكومة محمد مصدّق وتسهيل أدوار المخابرات المركزية الأمريكية في التخطيط للانقلاب عليه، وخروج الملكة عن «التحفظ» المزعوم لتأييد مارغريت ثاتشر في كسر حقوق الإضراب وأنشطة النقابات، وآراء زوجها فيليب ذات التعاطف الفاشي الصريح)؛ ثمّ الأخلاقية والسلوكية (فضيحة الأمير أندرو ابن الملكة وانكشاف تورطه مع مغتصب قاصرات أمريكي كانت واجهة موبقات خافية دفعت الملكة إلى تجريده من امتيازاته الملكية)؛ والقوموية الشوفينية (وعلى رأسها عواطف الملكة المناهضة للحقوق الاستقلالية لدى مواطني ويلز وإسكتلندا وإيرلندا الشمالية)…
غير خافٍ، إلى هذا، مقدار انحطاط غالبية ساحقة من المؤرخين وكتّاب السيرة، في بريطانيا والغرب إجمالاً، إلى حضيض صاعق في تحويل مساوئ التاج البريطاني إلى محاسن لصالح الشعوب، ضمن المقولة الأردأ والأشدّ زيفاً: «المهمة التمدينية»، التي افترضوا أنها أُلقيت على عاتق الإنسان الأبيض، وعلى رأسه ذاك البريطاني، تجاه «الهمج» و«البدائيين» والشعوب «القاصرة». وكان ونستون شرشل، رئيس الوزراء عند تتويج إليزابيث سنة 1952، وحامل جائزة نوبل، المثال الأعلى قحّة في التعبير عن قبائح الإمبراطورية؛ أوّل من أعطى الإذن باستخدام الأسلحة الكيماوية والغازات السامة ضدّ بدو العراق، تحت الذريعة الصريحة التالية: «الأسلحة الكيماوية تمثّل تطبيق العلوم الغربية على الحرب الحديثة. إننا لا نستطيع تحت أيّ ظرف الضغط باتجاه منع استخدام أية أسلحة متوفرة وقادرة على إنهاء الفوضى السائدة على الحدود».
ويبقى أنّ رحيل إليزابيث الثانية يطوي مجلدات في تاريخ الملكية البريطانية، لكنه في المقابل يعيد فتح المزيد من الأبواب، على مصاريعها؛ حول مؤسسة لم يشهد التاريخ أكثر منها مهارة في تهذيب الإبادة وتجميل الحروب.
(القدس العربي)