قضايا وآراء

هل الديمقراطية حقا أقل الأنظمة سوءا؟

عوني بلال
1300x600
1300x600
* تُمجَّد الديمقراطيةُ غالبا في ثوب شفيف من التواضع بالقول إنها أقل الأنظمة سوءا. خلف هذا الوصف المحتشم (رغم الثوب المذكور) تقف عبارة هي القصد الفعلي الأبسط؛ أن الديمقراطية أفضل الأنظمة على الإطلاق. ولا يكاد الأمر يختلف عن القول بأن الصفر هو أصغر ما تنتهي له الأعداد الموجبة، أو أكبر ما تنتهي له الأعداد السالبة، فهذه تعريفات مترادفة بزوايا تصوير مختلفة.

* كُتبَ الكثير عن الديمقراطية في العالم العربي، ولا يبدو أن هذا الغنى ينبع من كثرة بالأفكار بقدر ما هو آت من امتهان للتكرار. لا مشكلة في الأمر، لولا أن أفكارا كهذه تتكلس بالإعادة وتتحول لشيء من صنف الحجارة، فلا تعود صالحة حينها إلا للتراشق وفجّ الرؤوس، بعد أن فقدت شعلتَها الأولى وانطفأت نار الفكرة التي فيها.

* الكتابة صعبة في مسألة كهذه، لا لتجريد مفاهيمها وإنما للعكس تماما؛ لانغماسها الكليّ بالواقع. كيف لك أن تهاجم الديمقراطية دون أن تَلمَس في نفسك فيلسوفا غير متوّج لاتحاد المُخبـرين العرب (إن كان اتحاد كهذا موجودا) أو ناطقا غير رسمي لأردأ أنظمة التسلط؟ وكيف لك أن تمتدحها دون أن يكون كلامك إنشاء بلاغيا مفصوما عن الواقع، ومُعادا آلاف المرات عن "أقل الأنظمة سوءا"؟ ليس الأمر تبرما من التكرار بذاته؛ أشياء كثيرة تبقى صحيحة مهما أعيدت. قيم كالنزاهة والتضحية لا تضمحل إذا تكرر الكلام فيها، وحقائق الفيزياء لا تضرها الإعادة. لكن الأمر هنا ليس قيمة ولا حقيقة فيزيائية، بل تقنية مقترحة لإدارة الدولة وتسيير المجتمع، أو هكذا كان يُفترض.
لم تعد الديمقراطية تقنية مقترحة، بل شيئاً أقرب للعقيدة. اتضح في وقت ما أن التقنية وحدَها لا تكفي، وعليه، أُلحقَت بها "قيم ديمقراطية". في تلك الزيجة بين التقنية والقيم، بدأت ملامح عقيدةٍ ما تتشكل، وزاد الأمر تعقيدا عندما تحول العنوان الديمقراطي رأسَ حربة دعائيا للعالم الغربي

* واقعيا، لم تعد الديمقراطية تقنية مقترحة، بل شيئا أقرب للعقيدة. اتضح في وقت ما أن التقنية وحدَها لا تكفي، وعليه، أُلحقَت بها "قيم ديمقراطية". في تلك الزيجة بين التقنية والقيم، بدأت ملامح عقيدةٍ ما تتشكل، وزاد الأمر تعقيدا عندما تحول العنوان الديمقراطي رأس حربة دعائيا للعالم الغربي؛ سواء في اجتياحاته العسكرية لمنطقتنا، أو في معاركه الموسمية مع خصومه الدوليين. وبات التأكيد العلني للديمقراطية -بأغلب الأحوال-، تأكيدا بالمواربة على جملة قناعات سياسية وفكرية بعينها (ليبرالية بطبيعة الحال). بهذا، لم تعد "التقنية" مصممة كي يقود المجتمع نفسَه إلى حيث شاء، وإنما إلى حيث شاء من اقترح التقنية في المقام الأول.

* عندما تسمع تعليلا لفشل التحول الديمقراطي على هيئة: "المشكلة في التطبيق وليس في النظرية"، ينتابك شعور غريب بأنك سمعت هذه العبارة سابقا، وتحديدا، من أعتى العقائديين، وأكثر الناس أدلجة. لا عيب في أيّ من هذا، لكن العيب هو في سخرية صاحب العقيدة الديمقراطية من أصحاب العقائد الأخرى، وكأنه يحلّق في الهواء فوقهم وليس واقفا على الإسفلت بينهم.

* تزيد صعوبة التعاطي مع الديمقراطية لأسباب عديدة، أحدها آت من أول حرفين فيها: أل التعريف. لَم تعرف اللغة أداةَ تضليل فكري كما عرفت بهذين الحرفين. ترى أمامك مجتمعات تعيش انقسامات طاحنة، طولا وعرضا، ثم تجد وسط ذلك من يتحدث عن "الشعب"، هكذا، بأل التعريف. ثم يرميك آخر بمصطلح "الإسلاميين" ليجعله مظلة يقف تحتها راشد الغنوشي وأبوبكر البغدادي كتفا بكتف. وقس على ذلك في حديث "الديمقراطية". كم تجربة ديمقراطية عرفها العالم؟ يبدو العدّ صعبا، فأين تبدأ وأين تنتهي، ومن تَقبلُ في تعدادك ومَن ترفض؟ لذلك، تجد من يُنظِّرون في الموضوع يُتخِمون نظرياتهم بالمحددات والملاحق والتنبيهات؛ لأنك كيفما نظَرت، ستجد استثناء لأطروحتهم في تجربة هنا، أو مثال هناك. لا أحاول جعل الكلام مستحيلا عبر تكبير مدى الموضوع، بل العكس تماما؛ أحاول جعله ممكنا بتصغير مجاله، والتركيزِ حصرا على العالم العربي في السنوات الأخيرة، لنعيد السؤال الأول بعد أن صغّرنا دائرته: هل الديمقراطية حقا أقل الأنظمة سوءا في العالم العربي لزمن كهذا؟

* تحب أنظمتنا العتيدة أن تتحدث عن "الخصوصية العربية" كي تبرر وضعها القائم واستحالة التغيير، والواقع أن ما يسمونه "خصوصية عربية" تسمية مواربة لدُونية عربية يؤمنون بها سرّا. الرثاثة مكشوفة هنا، لكن هناك رثاثة أقل انكشافا على المقلب الديمقراطي الآخر، وهي افتراضُ دونية عربية تحتّم علينا نقلَ نظام سياسي بعينه، في شكل انتهى له بعد مخاض عاشه في مكان آخر وأزمنة أخرى، وبعد أن فشلت محاولات نقله عشرات المرات. ولعل فقر الخيال -رغم اختلاف النوايا- هو القاسم المشترك الأدنى بين هاتين الدونيتين.
الخلاف العلماني- الإسلامي لا يمكن "إدارته" ديمقراطيا إلا إذا جُرِّدَت الإسلامية أو العلمانية من أي مضمون فعلي، وتَحوَّلتا مسمياتٍ تمويهية لفكرة واحدة بنكهتين مختلفتين (ولعل هذا بالضبط هو المقصود -غير المعلن- لما يسمى بالقيم الديمقراطية)

* كيف قُرئت العشرية الماضية من محاولات التغيير العربي؟ القراءات كثيرة في الفريق الديمقراطي، لكن خيطا ناظما غريبا يمر في كثير منها: تحميلُ مسؤوليةِ الفشل.. للفشل نفسه. يقال مثلا بأن القيادات الثورية وزعامات الأحزاب فشلت في التوافق، وكأن هذا ليس جوهر المشكلة أصلا. ماذا لو أن توافقا بين هؤلاء، بالاختلافات التي بينهم، ووسط القوى الدولية والإقليمية المحيطة بهم؟ ماذا لو كان ذلك استحالة سياسية وتاريخية؟ وماذا لو أن أي تكرار للتجربة، سيفضي مجددا لذات النتيجة؟ لماذا تُصوَّر النخب السياسية وكأنها تَخلّقت من الفراغ ولم تصعد من داخل مجتمعاتها، أو كأنها في اختلافاتها المزمنة لا تمثّل اختلافا قائما في قواعدها عصيٍّ على الحل عبر طاولات الحوار؟

* تأتي الديمقراطية محمّلة بأوهام لجمهورها (كما تفعل العقائد عادة)، ولعل الوهم الأكبر هو في قُطر دائرتها: في حجم التباين السياسي الذي تتسع له. لقد تبيّن أن هذا النظام المنشود -لو تحرّر فعلا من أي تحيز مضمر تجاه تيار بعينه- لا يتسع لاختلافات فكرية وسياسية إلا في أضيق الحدود، وأنه ينفجر من داخله إذا حاولت أن تجعله ساحة تنافس بين أفكار مختلفة جذريا. وبكلام أوضح، فإن الخلاف العلماني- الإسلامي لا يمكن "إدارته" ديمقراطيا، إلا إذا جُرِّدَت الإسلامية أو العلمانية من أي مضمون فعلي، وتَحوَلتا مسميات تمويهية لفكرة واحدة بنكهتين مختلفتين (ولعل هذا بالضبط هو المقصود -غير المعلن- لما يسمى بالقيم الديمقراطية). إن فكرة تأجيل الخلاف حول طبيعة الحكم "للانتخابات" وبعد "استقرار القيم الديمقراطية"، كان فرية كبرى ولا يزال. هذه أمور لا تُحلّ بالانتخابات، وإذا حصل وحُلّت كذلك، تنتهي البلاد إلى شلل عارم، وتصبح عودة الأنظمة السابقة مسألة وقت لا أكثر.
ليس من أولوية أهمّ ولا أقدس من تغيير الوضع البائس الذي انتهينا إليه في العالم العربي، وقد أخذت المحاولة الديمقراطية (كعنوان جامع على الأقل) فرصة استثنائية كبرى بهذا الإطار، زمانا ومكانا ودما وأرواحا، ووصلت في الختام لحائطها المسدود

* ليس من أولوية أهمّ ولا أقدس من تغيير الوضع البائس الذي انتهينا إليه في العالم العربي، وقد أخذت المحاولة الديمقراطية (كعنوان جامع على الأقل) فرصة استثنائية كبرى بهذا الإطار، زمانا ومكانا ودما وأرواحا، ووصلت في الختام لحائطها المسدود، لكن بعض أنصارها لا يزالون أمام الحائط، يكررون كلاما معادا وكأنهم يتلون التمائم، لعل الجدار ينشق ويسمح لهم بالعبور.

* هناك اختلاف جذري بين تيارات أساسية في العالم العربي، حول "من نحن" وماذا نريد مِن أنفسنا ومِن هذا العالم، ولن يُحَلّ هذا الاختلاف عبر صندوق من البلاستيك له شقٌّ بأعلاه يملؤه الناس بالورق. هذه خلافات لا تنتظر اقتراحات من أحد حول آليات حلها؛ هي تحل نفسها بالصراع المباشر والصدام المطول ومحاولة التغلّب. وعندما تُحسم، يكون ممكنا بعدها أن تُركَّبَ ديمقراطيةٌ ما، يذهب فيها الناس للصناديق كي يختاروا بين ألوان مختلفة من الفكرة التي تغلّبت وحسمت الصراع.

* دأب بعض من قاتلوا في تيارات السلفية الجهادية أن يكتبوا "مراجعات" بعد فشل تجاربهم العسكرية وموت الآلاف منهم ومِن غيرهم، وانتهاء القضايا التي حاربوا لأجلها في وضع أصعب وأشد سوءا. ورغم تقديري أن التشبيه مستفز لكثيرين (بمن فيهم نفسي)، فلعل الوقت قد حان كي يكتب الديمقراطيون العرب مراجعاتهم.
التعليقات (0)